كن أبا ضمضم – خديجة رابعة
عندما نثير مفهوم العطاء في الإسلام – هذه القيمة الأصيلة- نتذكر كرم و سخاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شهد به ذوي القربى كابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما الذي قال:” كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس”، كما شهد به الخصوم الذين كان صلى الله عليه و سلم سببا في إسلام الكثير منهم.
فعن أنس رضي الله عنه قال: ً ما سئل رسول الله على الإسلام شيئا إلا أعطاه فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع لقومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة” ( رواه مسلم).
وعلى طريقه صلى الله عليه وسلم سار صحابته الكرام، لقد انجذبوا لأناقة رسول الله الأخلاقية فاقتدوا به، وحاول الأغنياء منهم أن يقاربوا سقفه العالي، لكن تفطرت قلوب فقرائهم ألا يجدوا ما ينفقون، فباحوا بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
في مسلم عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا:” ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم”. فقال :”و ما ذاك؟ “. قالوا:” يصلون كما نصلي و يصومون كما نصوم و يتصدقون ولا نتصدق و يعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله:” أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم و تسبقون به من بعدكم؟ و لا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم” قالوا:” بلى يا رسول الله” قالوا: ” تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة”٠ قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله فقالوا :”سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله فقال رسول الله:” ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.
كان الصحابة- أغنياء و فقراء- يتسابقون على العطاء، فأرشدهم رسول الله لأبوابه المتعددة: الذكر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، الابتسامة… حتى لا يبقى أحد منهم إلا وتكون له يد بيضاء في موطن من مواطن العطاء.
هكذا فقه الصحابة تنوع أبواب العطاء، وأدركوا أنهم وإن لم يملكوا المال، فقد عوضوا بغنى النفس وأناقة المشاعر ونقاء القلب.
فعن علبة بن زيد رضي الله عنه أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء، ثم بكى، وقال:”اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض. و أصبح الرجل من الناس، فقال رسول الله:” أين المتصدق هذه الليلة؟” فلم يقم أحد، ثم قال:” أين المتصدق ؟ فليقم” فقام فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:” أبشر فو الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة.”
وعن قتادة رضي الله عنه قال:” أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم أو ضمضم، شك بن عبيد، كان إذا أصبح قال:” اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك”.
أبو ضمضم رضي الله عنه كان فقيرا، لا يملك حفنة من التمر، دعاه صلى الله عليه إلى الصدقة فالتمس في البيت دراهم أو دنانير، فما وجد شيئا فقام فصلى ركعتين في الليل، وقال : يا رب يا الله، إن أهل الأموال تصدقوا بأموالهم، وأهل الخيول جهزوا خيولهم، وأهل الجمال جهزوا جمالهم اللهم إنه لا مال لي، ولا جمال ولا خيول اللهم إني أتصدق إليك بصدقة فاقبلها: اللهم كل من ظلمني، أو سبني أو شتمني، أو اغتابني من المسلمين فاجعلهم في عافية وفي حل وفي عفو.
يا لها من صدقة فريدة! صاحبها فقير، لكنه مخموم القلب، حاز غنى النفس بين أضلعه، ففاضت عاطفته عفوا وتسامحا وتغاضيا.
أ يعجز أحدنا- و قد لا يملك ما يتصدق به- أن يطرق أبواب العطاء الخفي من عفو وصفح وتغافل…
أ يعجز أحدنا و نحن نعيش في أيام العفو من رمضان الكريم، نسأل الله بإلحاح و نقسم عليه:” اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا”.
نسأله سبحانه العفو عنا، و العفو: إزالة الذنوب بالكلية، يمحوها الله من ديوان الكاتبين، ولا يطالب بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم، ويثبت مكان كل سيئة حسنة.
أ نعجز أن نتمثل اسم الله ” العفو” فنعفو ابتداء عمن ظلمنا وآذانا، نغفر و نمحو، نصفح و نتغاضى، فنستحق بذلك عفو رب العالمين.
أ نعجز أن نكون مثل أبي ضمضم؟!!
“ذلك فضل الله يوتيه من يشاء” اللهم اجعلنا من أهله.
خديجة رابعة