كريم عيار يكتب: التقصيد فيما يُظن حول موضوع الدعاء وتأخر النصر والتأييد (الجزء الأول)

سأل رجل الشافعي فقال: “يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن ‌يُمَكن ‌أو ‌يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى”.

إن الواقع المرير الذي تعيشه القضية الأم، ألا وهي القضية الفلسطينية، واقع نتج أساسا عن وحشية صهيونية، مدعومة بانحياز أمريكي وغربي، مستغلة هوانا عربيا، بل إنه خذلان عربي سافر، قد يجعلنا نتحدث عن صهيونية عربية هي أشد نكاية من الصهيونية العبرية. إنها على العموم ثلاثة معاول تتواطأ لإبادة أهلنا في غزة، وتدنيس الحرمات والمقدسات.

في ظل هذا الواقع، يقف الطرف المقابل، والذي يمثله أولا أهل العزة في غزة، أهل الرباط والجهاد، يقاومون ويجاهدون وكلهم أمل في تحقق نصر الله الموعود للمؤمنين، وثانيا الشعوب العربية الإسلامية بزعامة العلماء الربانيين، شعوب لا تكل ولا تمل من تقديم أي دعم متاح، وعلى رأسه التوجه الدائم للمولى جل في علاه بالدعاء والرجاء بالنصر والتمكين، لأهلنا في غزة وفلسطين.

وبعد سنتين من المعاناة، تتراءى أسئلة وتتناثر هنا وهناك بحسب مجموعة من الأفهام، التي يلوكها بعض المحسوبين على الثقافة فضلا عن العوام: لماذا لم يتحقق موعود الله بشكل واضح من منطلق إن تنصروا الله ينصركم؟ لم لم يُستجب دعاء ملايين المسلمين من الأمة ومن بينهم قطعا الأتقياء والأولياء؟ لماذا لم يرفع الظلم عن الفلسطينيين والقهر عن الشيوخ والأطفال والرضع الذين عانوا سابقا من القصف والنسف، وانضاف إليه التجويع والتركيع؟ لماذا لم يُنزل سبحانه عقابه ومقته بالصهاينة وهم من سبوا الله تعالى وقتلوا أنبياءه واستهزأوا بالحرمات كلها؟

هذا الإحساس يؤججه حجم المعاناة الذي يلاقيه إخواننا بغزة العزة، ويلهبه أيضا حجم المسؤولية التي يحس بها كل مسلم، لأن أهلنا بغزة يجاهدون نيابة عن الأمة، ويرابطون دفاعا عن المقدسات التي يتحمل مسؤوليتها كل مسلم.

ثم هو إحساس تسنده اعتبارات شرعية أيضا، إذ إن عامة المسلمين يبررون مذهبهم ومنطقهم هذا، من منطلق مجموعة من الاعتبارات:

أولها اعتبار وعد الله تعالى بنصرة المجاهدين المؤمنين، المدافعين عن الحق والمنافحين عن الدين، لقوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الروم:47].

ثانيها اعتبار إجابة الدعاء، سواء من عموم الأمة التي لا تكل ولا تمل من رفع الأيادي إلى الباري جل في علاه متحرية أوقات الإجابة ومواضعها، أو من أهل الرباط والجهاد، إذ إنه سبحانه وعد بإجابة الدعاء خصوصا إن كان مرفوعا من يد مؤمنة مظلومة مكلومة، عدوها عدو لله ظالم متغطرس، ولعل الإجماع العام الدولي الصريح منعقد على تحقق هذا الكلام في المشهد الفلسطيني إزاء العدو الصهيوني، يقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [سورة البقرة: 186]، وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مالك، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: “يَا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ، وَاتَّقِ ‌دَعْوَةَ ‌الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ ‌دَعْوَةَ ‌الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ”

كل هذه الاعتبارات والنصوص وغيرها، تسعف كل من يرجو ويتوق إلى النصر والتمكين لأهلنا بفلسطين، وكلنا ذلك الرجل، لكن في الآن نفسه يستغلها بعض المحسوبين على الثقافة والفكر للاستهزاء بالدين من منطلق تخلف ما وعد الله به وعدم تحققه.

لكن يبقى التقصيد، واستحضار كافة النصوص التي تتناول موضوع الدعاء والنصر والتأييد، السبيل الوحيد، والمنهج السديد، والمسلك الرشيد، لتناول الموضوع، وهو ما يعبر عنه مسلك الاستقراء باعتباره أقوى مسالك الكشف عن مقاصد الشارع.

فآلية الاستقراء هذه تقتضي أن نقول ما يلي:

أولا: كما أن الله وعد المؤمنين المجاهدين المحتسبين بنصره سبحانه، وهو ما تحقق فعلا في مجموعة من النماذج سابقا ولاحقا (ولعل من اللاحق ما تحقق في الجهاد الأفغاني بغض النظر عن حجمه وما قيل عنه)، فإنه سبحانه قاصد الابتلاء أيضا من جهة أخرى، فقد يبتلي ويختبر سبحانه المجاهدين وأهل الحق عموما، وقد يبطئ النصر أو يرجئه بمشيئته سبحانه، والابتلاء لاشك أنه إبطاء للنصر وتأجيل له بقصد التمحيص، بل وأحيانا رفع جزئي له لا قدر الله، فالابتلاء ليس له حد معلوم، ولا قدر مفهوم، وكل هذا له علاقة بصفات الله تعالى التي تتعلق بمشيئته سبحانه، قال سبحانه مشيرا إلى معنى تأجيل المناصرة: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ‌وَزُلْزِلُوا ‌حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” [سورة البقرة: 214].

ولفظ الاقتراب هنا يحيل إلى عدم العجلة، ويصدقه ما أثبته رسول الله في الحديث الذي رواه خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ حيث قال: “شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا ‌تَسْتَنْصِرُ ‌لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

والعجيب سبحان الله أن أكثر الناس بلاء واختبارا هم أكثرهم استحقاقا للنصر لأنهم أحب الخلق إلى الله، جاء في الحديث “إِنَّ مِنْ ‌أَشَدِّ ‌النَّاسِ ‌بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ” ، والأعجب أن من الأنبياء من رغم بذل الجهد و استفراغ الوسع، لم يستطع تحقيق النصر البين في الأرض طيلة حياته، ومنهم من كُذب بالإطلاق، بل ومنهم من قتل وانتهت حياته وهو في خضم أداء مهمة البلاغ والدعوة لقوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [سورة البقرة: 87].

وفي هذا المقام أستحضر مقولة الشافعي التي أوردها ابن القيم عندما سأله رجل: يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن ‌يمَكن ‌أو ‌يبتلى؟ فقال الشافعي: “لا يمكن حتى يبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم…” وأضاف ابن القيم: فلابد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والكافر تحصل له النعمة ابتداء، ثم يصير في الألم.

ثم إن النصر في غزة ليس بالضرورة يتحقق بالمعنى المادي الطافح الذي يفيد الغلبة البينة والتامة، بل ما تحقق من المغالبة والممانعة والمقاومة هو في حد ذاته عز ونصر، ومجد وفخر، إذ معاني التأييد الرباني بادية في ساحات الوغى، فكيف لفئة قليلة عددا وعتادا أن لا تنكسر أمام فئة عاتية يكفي أن نقول عنها أنها الطفلة المذللة للقوة العسكرية الأولى عالميا، وهذا شبيه بما وقع في غزوة مؤتة، عندما أعد الصحابي خالد بن الوليد خطة الانسحاب الذكية أمام جيش العدو العرمرم، فهو في حد ذاته نصر وفخر.

إن التقصيد في هذا المقام يقتضي القول بأن المطلوب من أهل الرباط والجهاد أداء الواجب وكفى، واجب الجهاد الذي جعله الشرع ذروة السنام، وسبيل الحفاظ على الأديان، ولو بتضييع وفوات الأبدان، عند التزاحم والتعارض واضطرار الرجحان، ودافعهم وباعثهم إلى ذلك التعلق بما أعده لهم الرحمن، من رحمة ورضى وجنان.

إن التعلق بأداء الواجب يجعل أهل الثغور لا يحزنون إن تأخر النصر، فلا يأس، ولا يغترون أيضا بتعجيل النصر، فلا بطر. فلا يأس عند تأخره، ولا بطر عند حصوله، لا يأس لأنهم يعلمون أن النصر من عند الله، وهم مأمورون بالقيام بالواجب فقط، سواء ظهر أثره سريعا أو تأخر، ولأنهم يتعلقون برضا الله أكثر مما يتعلقون بنصر الله. ولا بطر إن تعجل النصر، لأنهم يعلمون أن الفضل لله، لا لأنفسهم، وأن النصر هبة لا كسب، ومنحة لا حيلة، وأنه ربما يُبتلى المنتصر أكثر مما يُبتلى المهزوم. وهنا أتذكر كلمة تنسب للمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي التي تلخص المطلوب: “ليس هناك نجاح أو فشل، انتصار أو هزيمة، بل شيء اسمه الواجب وأنا قمت به قدر استطاعتي”

هذا التوازن النادر لا يتحقق إلا حين يتربى الإنسان على الإخلاص، وعلى أن الواجب أمانة، والعمل عبادة، والنتيجة بيد الله وحده. وهنا يظهر الفرق بين من يقاتل من أجل قضية دنيوية، فيرتبط بالنتائج ويضعف إن تأخرت، وبين من يقاتل في سبيل الله، فيشتد ثباته كلما اشتدت المحن، لأنه يرى في كل لحظة عبادة تقربه من ربه، لا فرصة لإثبات ذاته أو تحقيق مجده. فأهل الثغور الربانيون، قلوبهم إلى السماء، وأقدامهم في الأرض، لا يحزنهم تأخر نصر، ولا تفتنهم بشائر نصر، بل هم في كل حال على ثغر من ثغور الدين، يقومون بالواجب، ويسلمون الأمر إلى الله، مطمئنين أن من كان الله معه، فما فقد شيئا، ومن كان الله عليه، فما نفعه شيء.
يتبع

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى