كان خُلُقه القرآن
إنه سيد الأصفياء وإمام الأنبياء، والسراج المنير، البشير النذير صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وأكرمهم وأتقاهم؛ قال الله تعالى مادحا وواصفا خلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: “كان خلقه القرآن”، وقال أنس: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا”
أولا: تواضعه صلى الله عليه وسلم:
لقد حثنا القرآن الكريم في غير ما آية منه على التواضع، وجعله من صفات عباد الرحمن؛ فقال الله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وقال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، وقال تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].
تجسد خلق التواضع في تعاملاته صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة، لو شئتُ لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حُجْزَته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبيًّا عبدًا، وإن شئت نبيًّا ملكًا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إليَّ أن ضَعْ نفسك، فقلت: نبيًّا عبدًا…)، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها: (هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته).
والتواضع من صفات أنبياء الله؛ روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، والقراريط: مفردها قيراط، وهو جزء من أجزاء الدينار.
ثانيا: أمانته صلى الله عليه وسلم:
ومن الأخلاق القرآنية التي تحلى بها خير البرية صلى الله عليه وسلم أداء الأمانة، فقد أمرنا الله تعالى في القرآن الحكيم بأداء الأمانات إلى أهلها، حذر من خيانة الأمانة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُنْ من خانك)، وأشهر من اتصف بالأمانة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل أمور حياته، قبل البعثة وبعدها.
أما أمانته قبل البعثة صلى الله عليه وسلم، فقد عُرف بين قومه قبل بعثته بـ”الأمين” ولُقِّب به، فها هي القبائل من قريش لما بنت الكعبة حتى بلغ البنيان موضع الركن (الحجر الأسود) اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون القبيلة الأخرى حتى تخالفوا وأعدوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالٍ أو خمسًا، ثم تشاوروا في الأمر، فأشار أحدهم بأن يكون أول من يدخل من باب المسجد هو الذي يقضي بين القبائل في هذا الأمر، ففعلوا، فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، قال عليه الصلاة والسلام: (هلم إليَّ ثوبًا، فأُتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه).
ثالثا: وفاء سيد الأصفياء صلى الله عليه وسلم:
لقد جاء القرآن الكريم وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لترسيخ خلق الوفاء؛ لأن الوفاء بالعهود هو شرع الله الذي ارتضاه جل في علاه؛ فقال ربنا تبارك وتعالى في سورة المعارج في صفات أهل الجنة المكرمون: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المعارج: 32]، وقال في سورة المؤمنون في صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، وقال في علامات الصادقين المتقين في سورة البقرة: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق:
ومن نبع وفائه صلى الله عليه وسلم أنه لم ينسَ ما قدمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لنصرته ولنصرة الإسلام؛ فعن عليٍّ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر)، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: ((إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر).
رابعا: جود وسخاء من علم الدنيا العطاء صلى الله عليه وسلم:
اعلموا أن من الأخلاق التي دعا إليها الله تعالى خلق الجود والسخاء؛ فقال الله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 11]، وقال جل شأنه: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18]، وعن سهل بن سعد الساعدي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها).
ولقد ترجم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ أجود بالخير من الريح الـمرسلة).
وتصور ذلك المشهد العظيم الذي يدل على عظم العطاء من إمام الأصفياء صلى الله عليه وسلم:
عن موسى بن أنس عن أبيه قال: (ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة).
وعن ابن شهاب قال: (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، فتح مكة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ صفوان بن أمية مائةً من النَّعَمِ ثم مائةً ثم مائةً، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ).
الإصلاح