“قمة” شرم الشيخ بين السلام المزعوم وإقبار القضية الفلسطينية – نورالدين الهادي

كان للموافقة الموفَّقة لفصائل المقاومة الفلسطينية على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وخاصة الجزء المتعلق بإيقاف حرب الإبادة الجماعية في غزة وتحرير الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق سراح الأسرى الصهاينة، الأثر البالغ في تسريع عملية وقف الحرب بعد ساعات من هذا الإعلان، ومع توقف القصف الإسرائيلي وتراجع قواته إلى الخط المتفق عليه، بدأت العمليات اللوجيستيكية لإخراج الأسرى الإسرائيليين من مواقع احتجازهم وتجميعهم لتسليمهم إلى منظمة الصليب الأحمر الدولي.
وفي خضم هذه الأحداث قام كل من الملياردير ستيف ويدكوف الوسيط الأمريكي ومبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، وبصحبته جاريد كوشنر صهر ترامب وزوجته إيفانكا ترامب بزيارة إلى تل أبيب يوم الأحد 12 أكتوبر2025، حيث نظم لهم لقاء مع أسر الأسرى الصهاينة لدى المقاومة، وأكد الثلاثة في ساحة “الرهائن” بتل أبيب على تضامنهم المطلق مع الكيان لاستعادة الرهائن وأسفهم على الضحايا الصهاينة في السابع من أكتوبر2023، “وأنهم يحاربون من أجل إسرائيل”، لكنهم لم يشيروا إلى أكثر من سبعين ألف شهيد و أكثرمن مائة وسبعين ألفا من الجرحى والدمار الشامل لقطاع غزة، وختموا كلمتهم بالدعاء بالسلام والازدهار لشعب بني صهيون، وهو موقف لا يوافقهم عليه يهود العالم الذين يستنكرون على الكيان الصهيوني كل ما يقترفونه في حق الشعب الفلسطيني من مجازر ومآسي إنسانية، إضافة إلى تحول قناعة العالم بأن هذا الكيان توسعي سادي متحرر من كل القوانين والمبادئ الدولية والإنسانية، وهي قناعة عبرت عنها الشعوب خاصة في أوروبا، عبر طوفان من الوقفات والمسيرات الشعبية في جل العواصم والمدن، صادحة أصواتهم بتحرير فلسطين واستنكار الإبادة الجماعية في غزة المكلومة، كذلك ينفي عن ويدكوف ومن معه صفة الوسيط المحايد في المفاوضات الجارية.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فما يزال وفيا لسرديته المعهودة وحديثه المتكرر عن استرجاع الأسرى الصهاينة، أما مأساة الشعب الفلسطيني، ومخلفات حرب الإبادة في غزة فلا حديث عنها، لذلك كلف نفسه عناء التنقل من واشنطن إلى تل أبيب ليلقي خطابا استعراضيا مطولا في الكنيست الإسرائيلي في صبيحة 13 أكتوبر 2025، في نفس توقيت إطلاق “الرهائن”، وقد تضمن هذا الخطاب إشارات صريحة وواضحة بدعمه الكامل واللامشروط للكيان الصهيوني، حيث أشاد بجميع المسؤولين الصهاينة وإنجازاتهم، وبالسلام الذي صنعوه من خلال القوة التي أنتجتها الأسلحة الأمريكية المتطورة، وأحسن الجيش الصهيوني استعمالها حسب وصفه، وهو تصريح صارخ بمساهمته ومشاركته في حرب الإبادة، ووصف هذا اليوم بأنه “يفتح الباب على العصر الذهبي “لإسرائيل” التي ستصمد إلى الأبد وستبقى حليفا أساسيا لأمريكا، كونها تمتلك الجيش القوي في العالم…”، كذلك لم يخل خطاب ترامب من إشارات يهين بها الحكام المجتمعين في شرم الشيخ، وفي مكافأة على هذا الدعم أعلن رئيس الكيان إسحاق هيرتزوغ أنه سيمنح الرئيس الأمريكي “وسام الشرف الرئاسي الإسرائيلي”، وهو أعلى وسام مدني تقديرا لما “أسداه” ترامب لدولة بني صهيون.
بالتأكيد فإن لكل ما صرح به ترامب في خطابه هذا في الكنيست دلالات بل وآثار على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، تجعل الكيان الصهيوني يظهر بمظهر الدولة القوية العنيفة التي ترهب الجيران القريب منهم والبعيد، من أجل تثبيت “السلام” بالمفهوم الصهيوأمريكي من خلال القوة، لتغيير معالم المنطقة خدمة لأجندة أمريكا والكيان معا، وإعادة رسم خريطة المنطقة، وهو ما ينسجم مع روح خطة ترامب، مما يعني سايس بيكو جديدة.
ثم يأتي المشهد الأخير من هذه الدراما وهو “قمة” شرم الشيخ، في نفس اليوم الذي أفرج فيه عن الأسرى الصهاينة، مع ما يمثل ذلك من رمزيات، ليلتئم زعماء العديد من الدول بدعوة من رئيس أم الدنيا، وبعد انتظار للرئيس ترامب دام ثلاث ساعات، كونه كان مشغولا في احتفالات الكنيست التي ألقيت فيها كلمات مطولة، دون اعتبار “للقادة المنتظرين في شرم الشيخ، بدأ المشهد في قاعة المؤتمر بأخذ صورة ثنائية مع ترامب واحدا واحدا، وهم مصطفون بشكل مهين، في مشهد لم يعرفه البروتوكول الدبلوماسي إطلاقا، وذلك من أجل تلميع الصورة وإظهار ترامب على أنه صانع سلام لم يعرف التاريخ نظيرا له، وهو الذي صرح بعظمة لسانه في الكنيست جهارا نهارا قبل لحظات من دخوله قاعة المؤتمر، أنه هو الذي قدم للكيان أحدث الأسلحة الفتاكة التي صنعت الفارق وتفوق بها الجيش الصهيوني، فدمر بها 90 بالمائة من مباني غزة، وقتل وجرح أزيد من ربع مليون فلسطيني، ودك بها حصون المقاومة في لبنان واحتل مجددا أجزاء من أراضيها ، وسيطر بها على مساحات إضافية من سوريا، وقصف بها بنيات تحتية وأحياء في اليمن، وغدر بالدوحة عبر محاولة اغتيال المفاوضين الفلسطينيين على أراضيها، واعتدى بها على سيادة دولة إيران.
وخلال كل كلمات وتصريحات ترامب لم يتحدث إطلاقا عن الكارثة الإنسانية التي خلفها الجيش الصهيوني، ولا عن مستقبل الشعب الفلسطيني ودولته المستقلة، ولا عن حصار سكان غزة المستمر لمدة عقدين من الزمن، ولا عن الطريقة المهينة والإجراءات التعسفية التي سلم بها الكيان الأسرى الفلسطينيين المحررين المنهكين بالأمراض نتيجة التعذيب وسوء المعاملة، لكنه ما فتئ يكرر الحديث عن “السلام” لضمان أمن الكيان واتمام عملية التطبيع وحماية مصالح أمريكا في المنطقة، ولا حديث عن تسوية القضية الفلسطينية، أما غزة فينقلها ترامب من الإبادة بالحديد ونار القنابل، إلى إبادة بالأدوات السياسية بمشاركة عربية في قمم ولقاءات ومؤتمرات تجرى وتنظم على أراضي عربية، لذلك لم تنتج “قمة ” شرم الشيخ شيئا يذكر، سوى تحسين صورة ترامب، وتزكية خطته بإقبار القضية الفلسطينية، ومباركة سلام يضمن للكيان السيطرة المطلقة على المنطقة بالقوة المفرطة.
أما رفع الحصار عن غزة، ودخول المساعدات الكافية وبرنامج إعمار غزة وقبل ذلك رفع الأنقاض التي تصل حمولتها إلى 65 مليون طن ( وهي حمولة يمكنها إنشاء مدينة على البحر بجانب غزة)، ووقف العدوان على أهل الضفة الغربية، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى التي يقودها وزراء في حكومة الكيان، والمفقودين والمخطوفين الفلسطينيين أثناء الحرب، فالكلام فيها محرم، وصام عن الحديث عنها جميع من حضر تلك “القمة”.
صحيح أن الحرب في غزة توقفت، لكنها لم تنته بعد، إن السلام الذي يتحدث بشأنه ترامب والعديد من القادة، ليس إلا واقعا افتراضيا من وحي خيال الطامعين والطامحين في فلسطين وما تمثله من رمزية منذ قرون، فالمنطقة أكثر تعقيدا مما يعتقده كثيرون، هو سلام يفرض بالقوة عبر سرقة حقوق الفلسطينيين وسلبهم أرض أجدادهم، بتسويات مفروضة بالقوة وسط واقع هوان حكام العرب والمسلمين، لكن معركة الحق والباطل مستمرة، والشعوب العربية والإسلامية ستقول كلمتها، وعملية نصرة ودعم القدس وفلسطين يجب أن تستمر كذلك، ويزداد زخمها لمحاصرة الكيان ونبذه ، من أجل المزيد من الدعم الدولي بعدما تحولت القضية الفلسطينية إلى قضية رأي عام داخلي في كل أوروبا، مما أدى إلى طوفان من الاعترافات الدولية بفلسطين وبحقوق الشعب الفلسطيني، واستنكار الهولوكوست الصهيوني في حق سكان غزة، السلام الحقيقي سيكون بإرجاع الحقوق والمظالم، فقد ينتصر الظالمون في جولة من الحرب، لكنهم لا يمكن أن تكون لهم الغلبة في نهاية الحرب، لأنه لا يوجد منتصر أبدي أو مهزوم دائم، فالحرب سجال والأيام دول (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)/ آل عمران.