قـواعد خلدونية في العملية التعليمية؛ نصائح للمدرِّس.. ! – عدنان بن صالح
اسْـتَــأْثَــر العِلم والتعليم بحيِّزٍ وافِر من انشغال واهتمام الـمُصَنِّــفِين والكُتّاب في الحضارة العربية الإسلامية، وكَثيرٌ منهم وضع الإصْبَع على مواطِن قوَّةِ التَّمدْرُسِ ومكانة المدرِّسين أيام عِزِّهما معاً، وآخرون لامَسوا مواطِن الضّعف في زمن التقهقُر واختلال التّوازن (كالفقيه البلغيثي، والمؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون، والـمُرَبِّي علي القابِسي، والشيخ الطُّرنباطي، والعَلّامة المختار السوسي، والسلطان محمد بن عبد الله..)، وذَهب الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين، الطبعة الأولى، ص:19) إلى القول بأنَّ “أفضل السعادة في الدنيا والآخِرة هو العِلم، فهو إذاً أفْضَل الأعمال (..)، فإنَّ العِلم إذا كانَ أفضل الأمور؛ كان تَـعَلُّمُه طَلَبًا للأفضل، فكان تعليمُه إفادةً للأفضل”. وبَقِيَ مجال التدريس وطُرُق التعليم ومناهجه لها بنصيبٍ من الاهتمام في أوساط المثقَّفين والاتحادات الطلابية والمَدارِس التربوية والتيارات الـمَدنية والقِطاعات الحكومية الـمُكلَّفة بقطاع التربية والتعليم.
وبعودةٍ إلى عيونِ تراثنا؛ نقِفُ عندَ نصوصٍ بالِغة الأهمية لِــنَــفَاذِ رؤيتها وقُدرتها النقدية والرصدية بالنسبة لزَمِنها، ولـما تكتنِزه مِن مُوَجِّهاتٍ في الفِكر والنَّظر بالنسبة لزَمنِنا. وتزامنا مع ذِكرى اليوم العالمي للمدرِّس (ة)، اقتفيتُ أثَرَ بعضِ القواعِد والموجِّهات التربوية والبيداغوجية والمعرفية في مجال تعليم النّاشئة، في الـمصدَر الثَّرِّ ” كتاب العِبر وديوان المبتدأ والخَبر في أيام العرب والعَجَم والبربر ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر” للعلَّامة وَلِيّ الدين عبد الرحمن ابن خلدون (732ه-808ه) وبالأخص، الباب السادس من المقدِّمة التي اتخذَ له عنوانا جامِعا “في العلوم وأصنافها والتدريس وطُرُقه وسائر وجوهه وما يَعرِض في ذلك كلِّه مِن الأحوال”، وخَصَّهِ بـسِتّينَ فَصْلاً، فصار بذلك مِن أطول أبواب المقدِّمة وأكثرها أهمية وفائدة.
إنَّ (المقدِّمة) بما احتوته مِن فصول غنية ومُكثَّفة وذات فوائد؛ تُقْـرأ ثمَّ تُعادُ قراءتها بشكل متكرّر ومتجدِّد، وهي من الجدارة بحيثُ تستحقّ وقفاتٍ واستِنباطاتٍ تُوظَّفُ في كثيرٍ من قضايانا الـمعاصِرة. والفصول الستّون التي ركَّزت القول في أصناف التعليم ومهام المعلِّمين وما عليهم وعلى المتعلّمين من آداب، وطُرُق إبلاغ الدَروس، وكيفيات حُصول الـمَلَكات، وإشكالات التّلقين بغير اللِّسان العربي، وما اعتَوَر وظيفيات التَّدريس من أعطاب وإخفاقات مع تقدّم الأمّة في الزّمن؛ قُلت إنَّ هذه الفصول جميعها من الأهمية بمكان، غير أنّنا سنسْتَخْلِصُ جُملةَ قواعِد نُذكّرُ بها القائمين على أشرَفِ مَهمّة وتبليغ أنْبل رسالة؛ رسالة تعليم الصِّبيان وتهذيب الوِلدان، بما فيه صلاح الأوطان ونهضة الإنسان.
معلومٌ أنَّ نصوصاً من فضول الباب السادس من المقدِّمة همَّت بيانَ الحالة العامة للتَّمَدْرُس في الحواضر الإسلامية على امتداد تاريخٍ طويل إلى مطالع القرن الرابع عشر الميلادي، وإحاطتنا علماً باختلافِ مذاهب الأمصار الإسلامية في طُرُق تعليم الوِلدان (أو ما يُعرَف في الأدبيات التربوية التراثية بــ”رِياضة الولدان”)؛ إلاَّ أنَّ ثمَّةَ نصائحَ يُقدِّمها ابن خلدونٍ وقواعِد خلدونية نَستشِفُّها من عناصِر فصول المقدِّمة، تبْرِزُ وجْهَ الصواب في تعليم العلوم وطُرُقِ إفادَتها. ومنها هذه القواعد الذَّهبية الموجَّهة لأسرة التعليم:
الامتِناع عن إنزالِ الشِّدَّةِ بالـمتعلِّمين لأنها مُضِرّة بهم، وتَجنُّبُ الاستِبداد في التأديبِ لأنّهُ مُذْهِبٌ بنشاطِهم وحامِلٌ لهم على الغِشّ والتحايل والتّخابُثِ السلوكي أثناء التعليم والكذب على آبائهم، مما يُؤدِّي بالنتيجة إلى سُوءِ الـمَلَكَةِ لديهم، ومنها فسادُ الإنسانية فيهم، مما يجْعلُ الاجتماع البشري يؤدِّي ضريبة باهظة (مستقبَلا). وفي رسالةِ هارون الرَّشيد إلى معلِّم وَلدِه المأمون شيءٌ من هذا المعنى، إذ يقول له: “.. ولا تَـمُــرَنَّ بِكَ ساعةٌ إلاَّ وأنتَ مغتنِمٌ فائدةً تُفيده إيّاها مِن غير أنْ تُحْزِنه فتُميتَ ذِهنَه، ولا تُمْعِن في مُسامَحَته فيَسْتحْلِيَ الفراغ ويألَفه، وقَــوِّمْه ما استَطَعتَ بالقُربِ والـمُلايَنَة..”. ومَيْلُ العلّامةَ ابنُ خلدونٍ إلى خيار التربية المتفهِّمة واضح في أكثر من نصٍّ من نصوص (المقدّمة).
ضرورة إتقان فنِّ الخطّ، لأنَّ “الخطّ مِن الصنائع الحضرية” ص: 445، وهو “مِن جُملة الصنائع المدنية المعاشية” ص، 447، والحِرص على تعليم الصَبي من بواكير تمدرُسِه إتقان الخطّ، لا سيما إذا تَعلَّق الأمر بتعَلُّمِه نصوص اللغة العربية والفلسفة والعلوم الـمُعرَّبة، وتدريبه على إحسانِ الكتابة. فقد عدَّها العَلّامة “مِن بين الصَّنائع الأكثر إفادة؛ لأنها تشتمِلُ على العلوم والأنظار بخِلاف الصَّنائع. وبيانُه أنَّ في الكتابة انتقالاً من الحروف الخَطّية إلى الكلمات اللَّـفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى الـمعاني التي في النَّفس، فهو (أي التلميذ) يَنتقِلُ أبداً من دليل إلى دَليل، ما دام مُـتلَبِّساً بالكتابة، وتتعوَّد النّفس ذلك دائما، فيَحصُل لها مَلَكة الانتقال من الأدلّة إلى المدلولات، وهو مَعنى النَّـظر العقلي الذي يَكتَسـبُ به العلوم الـمجهولة، فتَـكْسِبُ بذلكَ مَلَكة من التَّـعقُّل تكونُ زيادةَ عقل”، ص: 459
مُراعاة التدرُّج في تبليغ الموارِد وتعزيز الكِفاية لدى التلاميذ، فإنّ “تَلقين العُلوم للمتعلِّمين إنما يكونُ مُفيدا إذا كان على التّدريج، شيئا فشيئا وقليلاً قليلاً” ص: 618، سَعيا لتثبيت الملكات لَدَى الوِلدانِ والتي لا تحصُل إلّا بتتابُع الفِعل [التعليمي] وتِكراره. ومِن هنا تَنبيه ابن خلدون إلى عدم إحداثِ قواطِع بين الحِصص الدراسية أو التَّطْويل الزَّمني في العودة إلى ما كانَ قَدْ بَدأه المتعلِّم من التحصيل في عِلمٍ ما.
الاقتِصار على موادّ مُحدَّدة في المقرر الدراسي، لتحصُل فائدة تَلقّي المعارِف الـمُدرَّسة، ولِكَيْ لا تَزدَحِم تكاليفُ إنجازِ الفروض أو مُطالَبة المتعلِّم بأن يكون مُجِدّاً في أكثَرِ من مادّة. وقَدْ شَنَّع ابن خَلدون على مُعَلِّمي عَصره جهْلهم بطُرُق التعليم وإفاداته، وخَلْطُهم على الـمُتعلِّمين مسائل وعلوم كَثيرة دونما وعْيٍ منهم بِقُدُراتِ المتعلِّم واستِعداداته الفَـهْمِية.
تخصيصُ حيَّزٍ للرحلة في طلب العلم ولقاء العلماء والمشايِخ كونُها مما يُكسِبُ الـمُتعلِّمين مزيداً من المعارِف ويُرَسّخ فيهم الـمَلَكات ويُنْهِضُ قِواهم الإدراكية للفهم والاستيعاب. وهو الدور الذي يُمكن أن تقوم بهِ أنشطة ما كان يُطلَقُ عليها سابِقا (الشّأن المحلي)، أو الخرجات والزيارات العلمية للمتاحف والمؤسسات الثقافية والعلماء واستِدعاء النُّبغاء والمخترِعين للمؤسسات التعليمية، وتحفيز التلاميذ على تأسيس المكتبات الشَّخصية، وإقامة العلاقات المعرفية التبادُلية وغيرها.
مَعْرِفة الدَّلالة مُعينٌ لمعرفة العبارة لدى الـمتعلِّمين؛ أيْ أنَّ وجودَ عُجْمَة في العلم الـموصَلِ للمتعلِّم من لِسانِ الـمعلِّم أو في الـمُقيَّدِ والـمُدوَّنِ من النصوص التي تُفْرَضُ للقراءة، تُقصِّرُ بالوِلْدانِ عن تحصيلِ العلوم عن اللسان العربي، فيكون ذلكَ سبباً لضُعْفِ مَلَكاتهم اللغوية والفهْمِية، لأنَّ “اللغة مَلَكَةٌ في اللِّسان، وكذا الخَطّ صناعةٌ مَـلَـكَتُها في اليَد” ص: 632، وأهل المغرب، نَظراً لاستِحكام العُجمَة البَرْبَرِية فيهم من قرون، وتعرُّبِهم عقِبَ دخول الإسلام، فإنَّ تحصيلَ مَلَكة اللسان العربي لدى الولدان بالتعليم والدَّرس كانَ أقْصَرَ وأعوْصَ، وهو في السياق الراهن يَعرِف نفس التحدي أو أكثر، مع اعتماد التدريس باللغة الفرنسية وإعطاء الأولية في تدريس المواد العلمية للسان الأجنبي.
ولما كانت “الـمَـلَكَات لا تَحصُل إلا بتِكرار الأفعال (أيْ الأفعال التعليمية-البيداغوجية)” ص: 643؛ فإنَّـه يَلْزَمُ الـمدرِّسينَ إنماء قوى الـمَلَكَةِ لَدَى الولدان بتغذِيتها، عن طريقِ الحِفظ المتكّرِّر وإلقاء الدَّرس الواحد في الفنّ الواحد مِراراً دونما مُـجاوَزَته لغيرِهِ لِـحين حصولِ المقصود من إلقاءهِ وتَمُكُّن الـمتعلِّم _ مع مراعاة الفُروق والقابِليات والإدراكات من متعلِّم لآخر _ من تحصيلِ الفهم والمعارِف، وإبداعِ أشكالَ مختلِفة في تنزيل المجزوءات، والعناية بأنشطة الذِّهن وبيداغوجيا المجموعات والتعليم اللَّافَصْلي، ورِعاية الحقِّ في الخَطأ لدى المتعلِّم وتمرينُه على بَسْط السؤال، واعتماد نِظام التَّحفيز كي يُبادِر المتعلِّمون إلى التنافُس الإيجابي والمسارعة النافعة..
هذا غَيْضٌ مِن فيضِ ما يمكن استِخلاصه من قواعِد وتوجيهات خلدونية لأسرة التعليم، وهي وإنْ لَمْ تُـغْنِ في توفِيةِ جوانِب العملية التعليمية التَّـعَلُّمية ما تحتاجه من موجِّهات ومبادئ وقواعِد ناظمة؛ فإنّنا تَقصَّدنا أنْ نَسْتَلَّ من بينِ مضامين الباب السادس من مقدِّمة ابن خلدون ما له تقاطُعات مع مهامّ ووظائف المدرِّسين والـمَدْرَسَة المعاصِرة، مُوظِّفين مفاهيمَ تتماشى ومضامين المسألة التربوية في سياقنا الراهن.
والحمد لله الذي بفضله هذه الـمقالة تَـمَّت، وبالنّفعِ عَـمّت.