قضايا الأسرة من خلال المواثيق الدولية.. قراءة في الأهداف، الغايات والمآلات (1)
تقديم :
للأسرة دور كبير، بل هو الدور الرئيس في تربية النشء، والحفاظ على هوية المجتمع وتماسكه، ومع ذلك لم تعطها الوثائق الدولية الاهتمام اللائق بها بل إن كثيرًا من الوثائق المعنية بالمرأة خلت بنودها تمامًا من أية إشارة للأسرة بمفهومها الطبيعي والفطري، وإنما تناولت المرأة كفرد مقتطع من سياقه الاجتماعي. واللافت أن الوثائق التي ذكرت فيها الأسرة، جاء ذكرها نادرًا وهامشيًّا، وفي سياقات تؤدي من خلال التطبيق إلى إضعاف الأسرة وهدمها، كأن ترد ضمن سياق المطالبة بتقليل النسل، أو ضمن سياق تقييد صلاحية الآباء في توجيه وتربية الأبناء فيما أطلقت عليه الوثائق: “العنف في نطاق الأسرة”، أو أن يأتي المفهوم في سياق في منتهى الخطورة وهو ضرورة الاعتراف بوجود أشكال أخرى للأسرة، وهو ما يعنى الاعتراف بالشذوذ وتقنينه وإعطاء الشواذ نفس الحقوق التي يتمتع بها الأسوياء من ضمانات اجتماعية والحق في الزواج والتوارث والحصول على كافة الخدمات الاجتماعية، ودفع الضرائب… إلخ.
السياقات التي ورد فيها مصطلح الأسرة في المواثيق الدولية:
تنظيم الأسرة وتحديد النسل:
نص البند (هـ) في الفقرة 107 من وثيقة بكين على: “توفير معلومات كاملة ودقيقة عن السلوك الجنسي والإنجابي المأمون والمسئول، بما في ذلك الاستخدام الطوعي لوسائل الوقاية الذكرية المناسبة والفعالة؛ بغية الوقاية من الأمراض .. وتوفيرها بأسعار زهيدة”
وأيضا البند (83/ل) من وثيقة بكين: “التشجيع بدعم من أهالي البنات والبنين وبالتعاون مع موظفي التعليم والمؤسسات التعليمية على وضع برامج تعليمية لهم، وايجاد خدمات متكاملة؛ بغية زيادة وعيهم بمسئولياتهم، ومساعدتهم على تحمل هذه المسئوليات، مع مراعاة أهمية التعليم والخدمات المشار إليها بالنسبة إلى نمو الشخصية واحترام الذات، وكذلك مراعاة الحاجة إلى تفادي الحمل غير المرغوب فيه وتفشي الأمراض التي تنتقل على طريق الاتصال بين الجنسين، ولا سيما فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز” .
المرأة في المواثيق الدولية نظرة تاريخية:
منذ بداية القرن العشرين والمجتمع الدولي يسعى لتقنين حقوق المرأة؛ ففي عام 1912 اعتمدت في لاهاي اتفاقيات بشأن تنازع القوانين الوطنية المتعلقة بالزواج والطلاق والانفصال والولاية على القُصَّر وفي عام 1914 أصدرت منظمة العمل الدولية اتفاقية حماية الأمومة المعدلة لسنة 1935 رقم (103)، واتفاقية العمل ليلا رقم 41 للنساء، واتفاقية العمل تحت الأرض للنساء رقم 45 لسنة ،1935 وقد رمت هذه الاتفاقيات إلى حماية المرأة العاملة ومراعاة وظيفتها كأم والتي تقتضي إفراد نصوص خاصة بها حتى تتمكن من الموائمة بين وظيفتها الطبيعة وعملها خارج المنزل.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام الدولي بقضايا المرأة؛ فقد أكد ميثاق الأمم المتحدة عام 1945في المادة الأولى على تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين النساء والرجال. وتعتبر المادة 55 من الميثاق التي تقرر حقوق الإنسان على أساس عالمي ودون تمييز ولا تفريق بين النساء والرجال، قاعدة قانونية ملزمة لجميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وفي عام 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي أوضحت نصوصه التوجه نحو حماية حقوق المرأة واهتم بالأسرة حيث اعتبرها الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع الدولي، وفي عام 1952 أعدت مفوضية مركز المرأة بالأمم المتحدة معاهدة حقوق المرأة السياسية، والتي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي عام 1967 أجازت الأمم المتحدة إعلانًا خاصًا بالقضاء على التميز ضد المرأة، ودعا إلى تغيير المفاهيم وإلغاء العادات السائدة التي تفرق بين الرجل والمرأة، مع الاعتراف بأن المنظمات النسائية غير الحكومية هي القادرة على إحداث هذا التغيير.
وفي عام 1968 صدر إعلان طهران والذي أصدره المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان والذي تضمن في الفقرة 15 منه بأنه يتحتم القضاء على التمييز الذي لا تزال المرأة ضحية له في عديد من أنحاء العالم.
وقد صدر عام 1969 إعلان التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي والذي صدر عن الأمم المتحدة وتضمنت المادة 4 منه منح الأسرة -بوصفها وحدة المجتمع الأساسية- الحق في المساعدة والحماية التي تمكنها من الاضطلاع بمسئوليتها داخل الجماعة.
وفي عام 1973 بدأت مفوضية حركة المرأة بالأمم المتحدة في إعداد معاهدة القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة، وفي عام 1974 صدر الإعلان العالمي بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والنزاعات المسلحة، وفي عام 1975 تبنى المؤتمر العالمي لعام المرأة في المكسيك وثيقة رئيسية هي إعلان المكسيك في مساواة النساء وإشراكهن في التنمية والسلام والخطى العالمية لتنفيذ أهداف يوم المرأة العالمي، وفي عام 1976 أكدت المادة 3 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على ضمان الدول مساواة الذكور والإناث في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في ذلك العهد وفي عام 1979 اعتمدت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وفي 3 ديسمبر 1981 أصبحت سارية المفعول بعد توقيع خمسين دولة عليها، وفي ذات العام أصدرت منظمة العمل الدولية اتفاقية العمل ذوي المسئوليات العائلية لسنة 1981 رقم 156 دعت الاتفاقية إلى المساواة المطلقة في الفرص والمعاملة بين العاملين والعاملات ذوي المسئوليات العائلية وتمكينهم من شغل الوظائف دون التعرض لأي تمييز.
وفي عام 1994 عقد مؤتمر القاهرة الدولي للسكان والتنمية وكان من الأهداف التي سعى إليها تحقيق مساواة بين الرجل والمرأة ومن الإجراءات لتحقيق أهداف المساواة إزالة جميع الحواجز القانونية والسياسية والاجتماعية التي تعترض المرأة ومساعدة المرأة على إقرار وإعمال حقوقها وفي عام 1995 عقدت لجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة (11) مؤتمر بكين والذي صدر عنه إعلان بكين والذي يفيد بأن حقوق المرأة هي من حقوق الإنسان، وأضاف العديد من المصطلحات المتعلقة بالعلاقة بين الذكر والأنثى وحقوق المرأة على حدة والطفلة الأنثى، وركز على مفهوم الجندر وطالب بضرورة تغيير الصور النمطية للمرأة في المجتمع والإعلام، وفي عام 2000 أصدرت الأمم المتحدة وثيقة (بكين +5) حيث طالبت بتعزيز الحملات الجندرية والتدريب على المساواة بين النساء والرجال، والفتيات والفتية؛ للقضاء على استمرار الصور النمطية التقليدية الضارة، وفي عام 2005 عقدت لجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة مؤتمر (بكين +10) والذي أقر في وثيقته مبدأ المساواة في النوع وركز على بنود وثائق بكين السابقة.
آليات تنفيذ بنود ومواثيق الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة .
1 – لجنة التمييز المنصوص عليها في المادة 17 من اتفاقية الـ CEDAW.
2 – مفوضية أو لجنة وضع المرأة commission on status of women وهذه مكونة من 87 عضوا من إفريقيا وأوربا الغربية وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وهذه المفوضية تقوم برفع مقترحاتها وتوصياتها للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
3 – المعهد العالمي للتدريب والبحوث الخاصة بالنهوض بالمرأة والذي أنشئ بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة وتستضيف هذا المعهد دولة الدومنيكان.
4 – صندوق الأمم المتحدة للإنماء للمرأة UNIFEM وهو يقوم بتمويل قضايا المرأة وتوفير المساعدات التقنية من أجل تحديد برامج واستراتيجيات من شأنها الارتقاء بحقوق المرأة ومشاركتها السياسية وأمنها الاقتصادي، ومن استراتيجيته إيجاد شراكة جديدة بين منظمات المرأة والحكومات والأمم المتحدة، والتكفل بمشروعات إرشادية لقياس طرق منهم قضايا تمكين المرأة والجندر، وتوفير المعرفة التقنية عن استراتجيات تمكين المرأة والجندر (النوع).
5 – صندوق الأمم المتحدة للسكان.
خلو بعض وثائق الأمم المتحدة المعنية بالمرأة تمامًا من أية إشارة للأسرة:
فمن اللافت للنظر خلو بعض الوثائق الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن المرأة من أية إشارة للأسرة بمفهومها الطبيعي، مثل:- البيان الصادر عن الدورة الثامنة والأربعين بعنوان (تنفيذ استراتيجيات نيروبى التطلعية للنهوض بالمرأة) تحدث عن التدابير اللازمة لتنفيذ هذه الاستراتيجيات من أجل تحقيق الأهداف المتمثلة فى”المساواة والتنمية والسلم” ولم يرد ذكر الأسرة على الإطلاق بل كان تركيز الوثيقة بالأساس على إدماج المرأة بشكل كامل في صنع القرار في الحياة العامة سواء على المستوى المحلى أو في الهيئة الدولية (شيرين أبو النجا، نسائي أم نسوي، مكتبة الأسرة، 2002، ص8.)- وفى تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي لعام 1995م -أحد الوثائق الرسمية للجمعية العامة في الدورة الخمسين- لم يرد ذكر الأسرة على مدار التقرير الذي بلغ تعداده 227 صفحة عبر أربعة عشر فصلاً رغم تناوله لمسائل ذات صلة، كحقوق الإنسان والنهوض بالمرأة ودور المرأة في التنمية ..إلخ.
قراءة في النصوص الأهداف والغايات والمآلات:
تؤكد التقارير على أن الأساس في تمتع المرأة بحقوقها هو تمكنها من التحكم في خصوصياتها: “وتشكل قدرة المرأة على التحكم في خصوصيتها أساسًا هامًا للتمتع بالحقوق الأخرى وطبقًا لما سلم به في خطة العمل العالمية للسكان”.وأعيد التأكيد عليه في المؤتمر الدولي المعني بالسكان، “لكل شريكين ولكل الأفراد الحق الإنساني الأساسي في أن يقرروا بحرية وعلى بيّنة عدد أطفالهم، كما ينبغي تعزيز عناصر الرعاية الصحية الأولية المتعلقة بصحة الأم وتنظيم الأسرة، وينبغي توفير المعلومات وتقديم الخدمات المتعلقة بتنظيم الأسرة (لاحظ: شريكين Partners والتي لا تعني بالضرورة زوجين).
إلغاء القوامة واستبدالها بالشراكة:
ففي التقرير الأممي الصادر عام 1985 بمناسبة تقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة، اعتبروا أن الحائل والعقبة الكئود أمام تمكين المرأة هو جعل الرجل مسئولاً عن الأسرة. وطالب التقرير الدول الأطراف بتغيير التشريعات، فجاءت البنود المختلفة لتنص على ذلك:
“إن التشريعات والأنظمة ذات الصلة التي تقصر دور العائل ورب الأسرة على الرجل تعوق حصول المرأة على الائتمانات والقروض والموارد المادية وغير المادية. ويلزم إدخال تغييرات على هذه المجالات تضمن للمرأة المساواة في الحصول على الموارد وهناك حاجة إلى استبعاد عبارات مثل “رب الأسرة” وإدخال عبارات أخرى على درجة من الشمول تكفي للتعبير عن دور المرأة على نحو مناسب في الوثائق القانونية ضمانًا لحقوقها”. “كما ينبغي إدخال برامج تعليمية لتمكين الرجال والنساء على حد سواء من تحمل مسئولية متكافئة في تنشئة الأطفال وإعالة الأسرة، وذلك على جميع مستويات النظام التعليمي.
ولا يقتصر الأمر على مجرد تغيير تشريعات وإنما المطالبة بإدخال تغييرات جذرية وشاملة على كافة أنظمة المجتمع حتى لو اقتضى الأمر إيجاد هياكل وكيانات جديدة من أجل الوصول إلى وضع نهائى يتشارك فيه المرأة مع الرجل في الإنفاق على الأسرة، وبالمثل يتشارك الرجل مع المرأة في المهام المنزلية وعلى الدولة الطرف تمهيد المجتمع لتقبُّل بل وتشجيع الأدوار الجديدة والمعدلة للذكر والأنثى، وقد ورد في نفس التقرير:”;وينبغي القيام بعمل متضافر يستهدف إنشاء نظام للمشاركة في المسئوليات الأبوية من جانب المرأة والرجل في الأسرة ومن جانب المجتمع. ولبلوغ هذه الغاية ينبغي إعطاء الأولوية لتوفير هياكل أساسية اجتماعية تمكن المجتمع من المشاركة في تحمل هذه المسئوليات مع المرأة، وتحقيق تغييرات -في الوقت نفسه- في المواقف الاجتماعية تؤدي إلى قبول وتشجيع أدوار للجنسين جديدة أو معدلة بحيث يمكن ممارسة هذه الأدوار وينبغي إعادة النظر في الواجبات المنزلية وفي مسئوليات الوالدين بما في ذلك اتخاذ القرار فيما يتعلق بحجم الأسرة والمباعدة بين فترات الإنجاب، بغية تقاسم المسئوليات بين المرأة والرجل”
“وينبغي تنقيح القوانين المدنية، ولاسيما القوانين التي تتعلق بالأسرة، من أجل القضاء على الممارسات التمييزية حيثما وجدت وأينما اعتبرت المرأة قاصرة، وينبغي إعادة النظر في الأهلية القانونية للمرأة المتزوجة؛ بغية منحها المساواة في الحقوق والواجبات”
اعتبار ممارسة الرجل مسئوليات القوامة داخل الأسرة “عنفًا ضد المرأة”:
وبالتالي توسيع دائرة التدخل القانوني داخل الأسرة، حيث دعت الوثائق إلى تدخل الحكومات في الأسر بإجراءات أمنية متعددة بدعوى حمايتها من العنف، من ذلك ما ورد في الفقرة 271 من التقرير الأممى سالف الذكر: “وينبغي إنشاء جهاز وطني يتولى معالجة مسألة العنف دخل الأسرة، وصوغ سياسات وقائية وتوفير أشكال مؤسسية لتقديم المساعدة الاقتصادية وغيرها من أنواع المساعدة لحماية ضحايا العنف من النساء والأطفال. كما ينبغي تعزيز الإجراءات التشريعية وتقديم المساعدة القانونية.
وفى الفقرة 288 تحت عنوان (النساء اللواتي تساء معاملتهن): “وينبغي للحكومات كذلك أن تكثف جهودها المبذولة لوضع أو تعزيز سبل المساعدة لضحايا هذا النوع من العنف عن طريق توفير المأوى والحماية والدعم والخدمات القانونية وغيرها. “وعلاوة على المساعدة الفورية التي يجب أن تقدم إلى ضحايا العنف الموجّه ضد النساء في الأسرة والمجتمع، ينبغي على الحكومات أن تعمل على زيادة توعية الجماهير”.
وبشكل غير مباشر يتم إقرار الزنا عن طريق اعتبار الطفل غير الشرعي طفلاً عاديًّا له أب وإلزام هذا (الأب) بتحمل مسئولية ذلك (الابن): “وينبغي جعل الوالد المفترض للأطفال الذين ولدوا بصورة غير شرعية يساعد في إعالة هؤلاء الأطفال وتعليمهم،
ومن ثم فإن أي اعتراض على حق المراهقة في ممارسة الجنس سيُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان، وكذلك امتناع الطبيب عن إجهاض فتاة سيُعد اعتداءًا على حقها الإنساني في أن يتوفر لها إجهاض مأمون، حرمان تعقيم الزوجة -إذا أرادت- دون الرجوع لزوجها يعد حرمان تعسفي من الحرية فلها الحق في أن تتحكم وتبت بحرية في المسائل المتصلة بحياتها الجنسية دون إكراه أو تمييز أو عنف ومن ثم فإن أى اعتداء على هذا الحق يعد انتهاكًا لحقوق الإنسان.
ذ. عبد الرحيم مفكير