قصة أعجبتني.. أخوة تتمزق عند القاضي – الحبيب عكي
يحكى أن ثلاثة إخوة أشقاء، وبعدما مات أبوهم وتعكر بينهم وبين زوجاتهم وأبنائهم صفو العيش وقل رغده، أرادوا اقتسام ما تبقى لهم من ميراث أبيهم، لكن ما عثروا عليه في قرطاس وصيته لهم لم يفهموه، فتوافقوا على فكرة صائبة تقضي بأن يذهبوا جميعا ككل الناس إلى الفقيه القاضي لعله يفك لهم لغزها، ويعطي لكل واحد منهم نصيبه وما أوصي له به كاملا غير منقوص، حزم الإخوة حقائبهم وجهزوا أنفسهم وركبوا على دوابهم وأخذوا طريقهم إلى الفقيه القاضي وكان يسكن بعيدا عنهم في بلاد أخرى، وبينما هم في طريقهم إليه إذ رأوا مرائي غريبة زادت من حيرتهم وشدت بتفكيرهم خلال أيام وليالي السفر أكثر من قضية ميراثهم الغامضة.
كان أول ما رأوا في طريقهم حصانا ضعيفا هزيلا وكأنه هيكل عظمي في مرعى أخضر فاره الخصب والعشب، مقابل حصان آخر سمين قوي نضر في مرعى قاحل جاف لا ماء فيه ولا كلأ إلا ما نذر، وبينما هم يستأنفون طريقهم وهم يستغربون مما رأوا ويحاولون فهمه وفك لغزه دون جدوى، إذ يقفون على واد ضخم على مشارفه يسمعون نقيق الضفادع ضخما وعاليا وخرير مياه رقراقة متدفقة وكأنه وادي عظيم المياه مفعم بالخصب والحياة، لكن ما أن طلوا عليه حتى وجدوه واديا جافا فارغا لا ضفادع فيه ولا مياه ولا أي مظهر من مظاهر الحياة النهرية أصلا، زاد استغرابهم كاستغراب قافلة في الصحراء من شدة جوعها وعطشها تتخيل كل شيء.
تابع الرحالة الملفوفون في ثيابهم وكأنهم الطوارق، طريقهم إلى مقصدهم وسط العجائب والخوارق وغرابة الواحدة منها أغرب من الأخرى، الخارقة الثالثة أنهم رأوا أفعى ضخمة كالتنين خرجت من جحرها بكل انسياب وسلاسة، لم تبلع الرقطاء شيئا ولم تشرب ماء خلال زحفها ونزهتها في الغابة الفيحاء، ولكن ما أن أرادت العودة إلى جحرها حتى لم تستطع وضاق عليها قطر الجحر ولم يسعها، كأن الأقدار قد حكمت عليها بالمكوث في العراء ظاهرة للعيان لا تستطيع منهم التستر والخفاء، وفي انتظار أن تجد لها جحرا وملجأ جديدا، لاشك أنها ستوقع من الضحايا ما ستوقع ومن يدري ربما كانت هي ضحية الضحايا لما ناصبتهم اللدغ والعداء.
أخيرا، وصل الإخوة المسافرون الثلاثة إلى بيت الفقيه القاضي، ووجدوا أمامه شيخا كبيرا طاعنا في السن، ملفوفا في سلهامه يحرك تسبيحه ذكرا وشكرا، سألوه هل هو هو؟ أجابهم الشيخ الكبير الجالس أمام باب المنزل بأنه ابن القاضي، أما القاضي بالذات فإنه هناك يلعب مع الشباب، وأشار لهم بيده إلى ملعب كان قريبا من هناك، فتحركوا نحوه ليجدوا الفقيه القاضي يلعب مع الشباب بكل حيوية ونشاط وكأنه لازال في ريعان الشباب فعلا، طلبوه فجاءهم، وأخبروه أنهم قد قصدوه لما عرف عنه من الفقه والحكمة والعدل والإمامة، ليفسر لهم لغز إرثهم في وصية أبيهم. ولكن قبل ذلك ترجوه أن يفسر لهم ما رأوه من غرائب رؤاهم في الطريق إليه.
رحب الفقيه القاضي بطلبات ضيوفه الثلاثة، وبدأ يفسر لهم غريب مشاهداتهم في الطريق فقال:
1- أما الحصان السمين في المرعى القاحل فتلك هي القناعة، ومن قنع شبع، وأما الحصان الهزيل في المرعى الوارف، فذلك هو الطمع، ومن طمع جاع، وبقدر طمعه تزداد جوعته ولا يردها شيء.
2- وأما أصوات الوادي الفارغ، فذلك وادي آخر الزمان الجارف، جري.. وجري.. وجري.. وسط الضوضاء ولا شيء غير الجري والضوضاء، لا ماء يمسك ولا ريح يعقد، على قولهم “جعجعة ولا طحين”.
3- أما الأفعى الضخمة الرقطاء التي لم تستطع العودة في جحرها، فتلك مثلها مثل الكلمة السيئة، إذا خرجت من في صاحبها لم يستطع إرجاعها ولا محوها ولا إيقافها، وهي لابد متجولة مبتكة آذان سامعيها موجعة قلوب ضحاياها، وكل ذلك مما يفسد العلاقات ويقطع الوشائج بين العباد.
زاد استغراب الإخوة الثلاثة فسألوه لطفا عن حاله مع ابنه، كيف شاب ابنه وهرم وهو الأصغر؟ وكيف لازال هو يتمتع بشبابه وقوته وهو الأكبر؟ قال لهم مبتسما: “قبل أن أجيبكم عن هذا السؤال اسمحوا لي أن أدعوكم لمأدبة عنده حتى نقوم بواجب ضيافتكم، وداره بالقرب من داري”.
قبل الإخوة استضافة الشيخ ولو في دار ابنه فلا فرق، وبينما الإخوة في دار الإبن رأوا زوجته على جمالها، كم هي قبيحة المعاملة سليطة اللسان، لم تطق ضيوفه على غرة، ولا أرادت خدمتهم، فبالأحرى إكرامهم ولو بما تيسر ولو بالكلمة الطيبة. قام الناس محرجين ليكملوا ضيافتهم في بيت الشيخ القاضي ورأوا كيف أن زوجته كيف رحبت بهم وخدمتهم بكل فرح وسرور وبسمة ولطف. فقال القاضي لضيوفه: “هكذا المرأة الطالحة القبيحة السليطة، المسرفة البخيلة، تشيب زوجها قبل الأوان، وهكذا المرأة الصالحة الجميلة الكريمة السخية، يسعد معها زوجها على مدى الحياة.
أما وصية ميراثكم يا أبنائي فإنها تفسر نفسها بنفسها، أما الأخ الذي كان قرطاس ميراثه حفنة من التراب فيعني أن له الأرض وعليه بفلاحتها وفيها سيكون رزقه على الله. وأما ال‘بن الذي كان قصب ميراثه قرن شاة فيعني ـن له كل الماشية، وعليه برعيها ورعايتها وتربيتها وتنميتها وبفضل الله ستجود عليه بخيراتها كلما أدى زكواتها؟ هنا تدخل الأخ الثالث حنقا فقال: ” رحمة الله عليك يا أبي كتبت الأرض لأخي فلان والماشية لأخي علان. فماذا أبقيت لي وأنا الأصغر الأحقر”. قال القاضي: ” لست الأحقر بل أنت الأشطر وصاحب الدينار الأصفر، ويعني أن أباك قد ترك لك التجارة وأوصاك بها وهي خير من الإجارة إذا ما وجدت من الشطارة ما تستحق، قضي الأمر الذي فيه تستفتون”.
حكاية سمعت أغرب خيوطها من أحد الفضلاء في وليمة فأعجبتني، فنسجتها ببعض المناسج والإضافات والاستنتاجات، وأردت تقاسمها مع القراء الكرام الأفاضل، عل بعض الفوائد تنالهم منها والفوائد منها مضمونة، وبها تكون الحياة متزنة، فليحذر أحدنا أن يكون مثل الحصان الهزيل في المرعى الخصب الأخضر (التيه واللاقناعة)، أو يكثر ضجيج السعي في الثلث الخالي دون معرفة زمانه ولا الاقدام على شأنه (ما لا طائل من ورائه)، أو يطلق سهام كلامه وتصرفه السيء وهما سيرتدان عليه ويصيبانه في وجع ومقتل قبل غيره (لا يحيق المكر السيء إلا بأهله)، واحذر من خضراء الدمن (المرأة الجميلة في المنبت السوء)، واحرص عموما على الفعل المناسب في المكان المناسب وبالشكل المناسب( فقها علما أو قضاء.. فلاحة رعيا أو تجارة)، ولا تحقرن من المعروف شيئا أي شيء والله المستعان.