قرطاح يكتب في رسالة الإصلاح: الكراسي العلمية والعودة المنتظرة
انعكس الانفراج الذي عرفته الوضعية الوبائية ببلادنا على جميع مناحي الحياة ومن جملتها الناحية الدينية، فبعد العودة الميمونة لصلاة الجماعة بإعادة فتح المساجد، ثم ما تلاها بعد حين من إقامة صلاة الجمعة، ثم عودة مدارس التعليم العتيق إلى دروسها الحضورية، وفتح دور القرآن أمام الراغبين في حفظ كتاب الله تعالى وتعلم تلاوته استهل شهر رمضان المنصرم بإعادة دروس الوعظ والإرشاد وإقامة التراويح. ولم تزل البركات تتوالى، فكانت إقامة شعيرة صلاة العيد في المصليات.
ما لا يحتاج المراقب إلى جهد كبير من أجل ملاحظته وتسجيله هو الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها الشعب المغربي كل شعيرة من شعائر الدين سبق أن علقت بسبب الجائحة. وظلت هذه الحفاوة في تصاعد مطرد إلى أن توجت بالإقبال المنقطع النظير على المساجد لأداء التراويح، ثم على المصليات لحضور صلاة عيد الفطر. وترجمت تلك الفرحة في شكل التهاني والتبريكات التي تبادلها المواطنون فيما بينهم، مع التوجه إلى الله تعالى بالشكر على نعمة التمكين لإقامة تلك الشعائر وسؤاله سبحانه أن يديم عليهم تلك النعم ويصرف الموانع التي قد تحول دون إقامتها مستقبلا.
لم يبق الآن لاستكمال النعمة وإتمام المنة إلا أن تعود الكراسي العلمية إلى مساجد المملكة، فهي تاج التأطير الديني والعلمي بالمغرب وذروة سنامه، وبعودتها سيستكمل ذلك التأطير جميع عناصره.
قد يكون من نافلة القول التذكير بمزايا وفضائل تلك الكراسي، ليس على المتحلقين حولها في المساجد، بل على عموم المغاربة الذين يتلقون مضامينها عبر إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وقناة السادسة، وأيضا على عموم المسلمين عبر العالم. إن لهذه الكراسي العلمية فوائد عظيمة جدا، عديدة ومتنوعة، نذكر منها ما يلي على سبيل المثال فحسب.
1ـ تمكين العلماء من القيام بالدور الشرعي المنوط بهم؛ فهم مكلفون من قبل الله تعالى بتبليغ كتابه إلى الناس وبيان مراده منه. قال عز وجل: ﴿وَإِذَ اَخَذَ اَ۬للَّهُ مِيثَٰقَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]. وهم كذلك ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومتأسون به في هذه المهمة الربانية الشريفة التي أوكلها الله إليه بقوله: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ اَ۬لذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَۖ (44)﴾ [النحل: 44].
2ـ إن من سبل تحقيق مصلحة حفظ الدين أن تحفظ مراتب العاملين في التأطير الديني، فتحفظ للمفتي مكانته، وللعالم مكانته، وللخطيب أو الواعظ الديني مكانته، وأن يترسخ هذا التمايز لدى الناس، حتى ينزلوا كل عامل في منزلته، و لا يخلطوا بين تلك المراتب. ولن يتحقق ذلك إلا بأن يتصدر السادة العلماء ورؤوسهم التأطير الديني، فيقدموا مادة علمية أصيلة تكون أساسا لما سواها من المعارف الدينية الأخرى.
3ـ الرقي بمستوى التأطير العلمي والديني؛ منهجا ومضمونا وأسلوبا. وهي مهمة لا تتأتى إلى للراسخين في العلم، الذين اجتمع فيهم الى جانب المكنة العلمية المكنة التربوية ــــــ البيداغوجية. وتفضي هذه المصلحة العظيمة إلى مصلحة أخرى تتمثل في:
4ـ تأطير القيمين الدينيين من الأئمة الوعاظ والخطباء تأطيرا جيدا، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، من خلال وضعهم أمام نماذج حية في التأطير، يندمج في خطابها العلم بالتزكية، وتعالج مشكلات الواقع على وفق سنن الإسلام في التدرج ومراعاة حال المخاطبين مع اعتبار فقه الأولويات والموازنات ومراعاة المآل.
5ـ زيادة الاشعاع العلمي المغربي في إفريقيا والعالم الإسلامي من خلال هذه الكراسي التي تلقاها أهل العلم بالقبول، وازدوا تطلعا إلى المغرب بلد القاضي عياض صاحب الشفا الذي قيل أنه لولاه لما عرف المغرب.
ولا شك أن إقامة هذه المصالح ستدرأ مفاسد عديدة؛ ظاهرة وخفية، ومن ثم فإن إعادة الكراسي العلمية إلى سابق نشاطها يندرج كذلك في باب العمل بقول الله تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) ﴾ [الرعد: 22] وإذ نأمل التعجيل بالعودة ، فليس ذلك افتئاتا على الجهات الوصية، وإنما هو استنان بما تقرر في قواعد الشرع أن خير البر عاجله، وبما حثت عليه العديد من الآيات القرآنية التي تدعو إلى المبادرة إلى الخير والتعجيل به، كقوله تعالى: ﴿سَارِعُوٓاْ إِلَيٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا اَ۬لسَّمَٰوَٰتُ وَالَارْضُ﴾ [آل عمران: 133]، وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلّٖ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ اُ۬لْخَيْرَٰتِۖ (147)﴾ [البقرة: 148]. والحمد لله رب العالمين.
الدكتور مصطفى قرطاح