قراءة في كتاب “القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية” – محسن محمد صالح
يشكل كتاب الدكتورة نائلة الوعري “القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية 1908-1948” الذي صدر مؤخراً؛ إضافة نوعية في الدراسات الفلسطينية، خصوصاً في الجوانب التاريخية المتعلقة بالنصف الأول من القرن العشرين.
والكتاب الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، في 567 صفحة من القطع المتوسط، يستفيد كثيرا من المصادر الأولية الأصيلة وغير المنشورة، كما يركز على المقومات الحضارية التي استندت إليها مدينة القدس، بما يؤهلها لاحتلال صدارة المدن الفلسطينية ومنطقة جنوب بلاد الشام كمركز إداري متقدم وعاصمة سياسية في الفترة التي تغطيها الدراسة، هذا إلى جانب مكانتها المركزية الكبرى في قلوب العرب والمسلمين، وأتباع الديانات السماوية.
والقارئ للكتاب يلاحظ الجهد الكبير الذي بذلته الباحثة والمؤرخة ابنة القدس، نائلة الوعري، خصوصاً في استفادتها من المصادر غير المنشورة مثل سجلات المحاكم الشرعية العثمانية، وخصوصاً سجلات المحاكم الشرعية للقدس وجنين وحيفا والخليل ويافا ونابلس والناصرة، وكذلك دفاتر بلدية نابلس العثمانية، ودفاتر الجيش العثماني، ودفاتر الطابو العثماني، ودفاتر مديرية الأوقاف العثمانية، ودفتر كاتب عدل القدس وغيرها. كما استفادت من 18 جريدة من الجرائد الصادرة في تلك الفترة، كجرائد الاتحاد العثماني واللواء والكوكب والجامعة الإسلامية والجامعة العربية والجهاد والدفاع وفلسطين وغيرها.
كما استفادت من أعداد كبيرة من المصادر والمراجع العربية والأجنبية، بما في ذلك الوثائق المنشورة والمذكرات وكتب الرحّالة والدراسات العلمية. وهو ما أعطى لهذا الكتاب مزايا نوعية، وقدَّم الكثير من المعلومات الجديدة للمتابعين والمهتمين؛ والتي تسهم في حفظ الهوية العربية والإسلامية لهذه المدينة المقدسة المباركة.
* * *
سعت المؤلفة الوعري إلى تناول هذه المدينة في بُعدها الحضاري، وتسليط الضوء على جوانب لم تحظَ سابقاً بما تستحق من اهتمام. ووزعت كتابها على تسعة فصول، حيث تناول الفصل الأول الحاضنة الجغرافية للقدس، والتي ميّزتها عن مدن الشام الجنوبية، وجمعت بين جمال الطبيعة، وتوفّر طرق المواصلات، وإمكانية الدفاع عنها، كما تناول الفصل حدودها المادية والمعنوية.
أما الفصل الثاني فتناول تحصينات القدس المادية والمعنوية، وما تحويه من أسوار وأبراج وخنادق وأنفاق وقواعد عسكرية ومراكز أمنية ومستودعات تموين، وأبرز عمقها الإقليمي.
وعالج الفصل الثالث النسيج العمراني للقدس، ملاحظاً انطلاقة بلديتها منذ سنة 1863، وكيف أن هذه البلدية كانت ثاني بلدية يتم تأسيسها في الدولة العثمانية بعد بلدية إسطنبول. وناقش التوسع العمراني الذي شهدته المدينة، وتوسع خرائطها الهيكلية لتضم قرى مجاورة أو أجزاء منها، مثل قرى لفتا وسلوان والعيسوية وعين كارم والمالحة وبيت صفافا والطور وصور باهر والولجة. ولاحظ نشوء أحياء عربية جديدة، وكذلك أحياء يهودية تَسَارع نموها تحت رعاية الاحتلال البريطاني، حيث تضاعفت مساحة القدس بنحو أربعة أضعاف خلال فترة الاحتلال البريطاني.
أما الفصل الرابع فناقش النسيج السكاني للمدينة، ومعدلات المواليد والوفيات، وتأثيرات الهجرة، والتغلغل الاستعماري الصهيوني والأجنبي فيها، وكيف أن السكان كانوا نحو 50 ألفاً سنة 1918 ليصبحوا نحو 244 ألفاً سنة 1948.
وغطى الفصل الخامس تشكيلات المدينة الإدارية العثمانية ثم البريطانية ثم الأردنية، بينما ناقش الفصل السادس مراكز القيادة والتحكّم، من ناحية المستويات الإدارية التي حكمت المدينة وقامت بتنفيذ التعليمات، وضبط العلاقات بين جهات الحكم المركزي في إسطنبول ولندن وعمان وبين الإدارة في القدس. وعالج دور المتصرف العثماني وقيادة الجيش الرابع، والحاكم العسكري البريطاني والمندوب “السامي” البريطاني والإدارة الأردنية، بتشكيلاتها العسكرية والمدنية؛ كما تحدث عن دور المجلس الإسلامي الأعلى ودوره الوطني الكبير بقيادة الحاج أمين الحسيني.
وتناول الفصل السابع عرض وتحليل حالة الإجماع الشعبي المحلي الفلسطيني حول القدس بما في ذلك السعي لرعايتها وشدّ الرحال إليها والأوقاف والتبرعات ومواجهة العدوان، بينما تناول الفصل الثامن حالة الإجماع العربي والإسلامي على مدينة القدس وزيارتها والتضامن معها والحشد والمقاومة لنصرتها، كما استعرض الفصل التاسع الموقف الدولي تجاه القدس، وعلاقاته ومواقفه تجاه القدس العثمانية واتجاه القدس في أثناء الاحتلال البريطاني. وعادت المؤلفة في متابعتها إلى سنة 1831 منذ سيطرة الحملة المصرية عليها، وما تبع ذلك من اهتمام بالمدينة، ومن فعاليات وأنشطة مرتبطة بالحصول على الامتيازات وشراء الأراضي وتأسيس المقار التجارية، والقنصليات، وتطور حركة الحجاج والزوار وغيرها.
وفي نهاية هذا المجلّد القيم عرضت الباحثة الوعري لنتائج دراستها، وألحقته بمجموعة مهمة من الخرائط والوثائق والصور، ثم بقائمة مراجع غنية، وأخيرا بفهرس للأعلام والمواقع التي وردت في الكتاب.
* * *
والحقيقة أنه لا بد من تهنئة الباحثة الدكتورة نائلة الوعري على هذا العمل المتميز، وعلى خدمتها للقدس وسدّها إحدى الثغرات في الدراسات التاريخية المتعلقة بالقدس.
ولا يخلو أي عمل من ملاحظات، غير أنها تتضاءل أمام الجهد الكبير الذي بذلته الباحثة. ولربما كان من أبرز الملاحظات هو عدم استفادة الباحثة من الوثائق البريطانية التي غطت فترة دراستها، خصوصاً في أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917-1948. وتحديداً الوثائق البريطانية المحفوظة في الأرشيف الوطني البريطاني (The National Archives) أو ما كان يُعرف سابقاً بمكتب السجل العام (Public Record Office)، حيث كانت ستكتمل الصورة بشكل أفضل حول المدينة، خصوصاً أن وثائق الخارجية البريطانية (F.O.) ووثائق وزارة المستعمرات (C.O.)، ووثائق وزارة الحرب (W.O.) وغيرها لا تخلو من مواد مهمة، باعتبار أن المدينة كانت تحت السيطرة المباشرة للاحتلال البريطاني. كما خلا الكتاب من العديد من التقارير البريطانية الرسمية عن الفترة نفسها.
ولم يلحظ كاتب هذه السطور أن القدس أخذت ما تستحقه كمركز انطلاق ثوري للشعب الفلسطيني، عند معالجة الباحثة للقدس كمركز إجماع شعبي محلي، خصوصاً في أثناء الاحتلال البريطاني؛ فلم تحظ جمعيتا الفدائية والإخاء والعفاف، كمؤشرات لبدايات العمل المقاوم للاحتلال منذ 1919 وعلماء ورجال القدس الذين كانوا خلفها، بإضاءات مناسبة أو كافية. وهذا ينطبق على أول انتفاضة في فلسطين، وهي انتفاضة القدس أو انتفاضة موسم النبي موسى سنة 1920، وهبة البراق 1929، وانتفاضة ومظاهرات 1933، ودور القدس في الثورة الكبرى 1936-1939، وحرب 1948. كما أنها عندما تناولت الإجماع العربي والإسلامي لم تتناول بالنقاش محطات فارقة مثل انعقاد المؤتمر الإسلامي العام في القدس في كانون الأول/ ديسمبر 1931، وما لقيه من تفاعل هائل فلسطينياً وعربياً وإسلامياً. ولعلنا نلتمس العذر للباحثة في أنها ركزت أكثر على الجانب الحضاري السكاني العمراني الإداري للمدينة.
وبالرغم من الحشد الضخم للمراجع، إلاّ أن بعض المراجع المهمة كان يجدر الاطلاع عليها خصوصاً كتاب الأستاذ الدكتور محمد عيسى صالحية “مدينة القدس: السكان والأرض 1858- 1948″، الصادر في بيروت سنة 2009، وهو داخل في صُلب دراستها. وكذلك مجلد “دراسات في التراث الثقافي لمدينة القدس” الذي شارك في إعداده 14 متخصصاً، والصادر في بيروت سنة 2010، وكلا الكتابين صادران عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
وعلى كل حال، فإن تلك القيمة النوعية للدراسة تبقى كبيرة، وتستحق أن تكون بين يدي كل المهتمين والمتخصصين في الدراسات الفلسطينية، وكل مكتبات الجامعات ومراكز الدراسات المتخصصة بالشأن الفلسطيني.