قراءات رمضانية 17| وداع رمضان

تتعدد الكتب والرسائل التي ألفت عن شهر رمضان المبارك بتعدد المجالات والتخصصات وزوايا النظر. وتحاول كلها البحث في كنه هذا الشهر الكريم، الذي خصه الله بمزايا تفوق خصائص الشهور الأخرى، إذ فيه نزل القرآن، وخلاله تضاعف الحسنات، وفيه ليلة خير من ألف شهر، هي ليلة القدر.

ويعد كتاب “وداع رمضان” من ضمن تلك الكتب، للإمام أبي الفرج ابن الجوزي، وهو عبارة عن رسالة نافعة ماتعة، موجِّهة ناصحة، كتبها الإمامُ الجليل أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي، بمناسبة وداع شهر رمضان.

أخبار / مقالات ذات صلة

وقد كان ابن الجوزي إماما كبيرا، وداعيا إلى الله بصيرا، وكانت مجالسه في بغداد التي يعقدها للتعليم والتوجيه، والتربية والسلوك، وتجديد العهد مع الله، من أشهر المجالس في التاريخ الإسلامي، ولا غرابة فهو واعظ الإسلام الموهوب، وطبيب الأرواح والنفوس والقلوب.

 ولعل هذه الرسالة كان قد ألقاها في بعض مجالسه، ثم دوَّنها، وأكرمنا الله عز وجل بوصول ثلاث نسخ لها. وهذه النسخ هي:

• نسخة في المكتبة السليمانية في إسطنبول، وأصلها من يني جامع (أي الجامع الجديد)، ضمن مجموع برقم (1185)، في 4 ورقات.

• نسخة في مكتبة جامعة الملك سعود في الرياض، ضمن مجموع برقم 3428، كتبها عبد العزيز العبد الرحمن البسام سنة 1322 هـ، في 4 ورقات أيضا.

• نسخة في الأسكوريال في إسبانيا برقم 436، ذكرها بروكلمان في تاريخ الأدب العربي (5/ 354).

وقد وقف الكاتب على هذه النسخ الثلاث – والنسخة الثالثة تالفة وناقصة جدا، فقد سقط أكثرها! – وعد الأولى أصل، واستعان بالثانية، ورمزها “ر”، واكتفى بإثبات الفروق المفيدة، وتجاوز الأخطاء والسقط فيها. وقدم بتعريف بالمؤلف فيه شيءٌ من نشاطه في رمضان، وتأليفه فيه، ووصف مجالسه بقلم الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير.

وتأتي هذه الرسالة في سياق هذا الشهر المبارك الذي أكرم اللهُ به الأُمَّة، وجعله موسما عظيما من مواسم الخيرات والبركات، لتذكِّر وتبصِِّّر، وتحضَّ على استدراك ما فات، واغتنام ما بقي، وترقِّق القلوب بأسلوب سهل مؤثر، وكلمات صادقة صادعة.

وقد درج العلماء والمربُّون والموجِّهون على تذكير الأمة بفضل هذا الشهر الكريم، وضرورة اغتنام أيامه ولياليه، وجعله منطلقا فاصلا إلى الله سبحانه وتعالى. 

ولابد من القول بأن أحدا من المؤرخين لم يذكر هذه الرسالة لابن الجوزي – سوى بروكلمان الذي ذكرها معتمدا على وجودها مخطوطة في الأسكوريال.

والقارئ لهذه الرسالة، سيثير انتباهه أن الإمام ابن الجوزي استعمل لفظة “وداع”، فالإمام رحمه الله يختار عباراته بدقة عالية، فاللقاء ـ كما هو معروف في مدلول اللغة العربية ـ محقق الرجوع، أما الوداع فمستحيل الرجوع، وبالنسبة لرمضان فهو محقق الرجوع زمانا، لكنه مستحيل التحقق اغتناما في زمانه الفائت، فأعماله قد رفعت إلى أن نلقى الله عز وجل.

ولم يكن وعظ الإمام ابن الجوزي رحمه الله كلاما مرسلا جافا، بل كانت له نورانية خاصة تنبع من معين ومشكاة الكلم النبوي، كلام كله همسات وزفرات من رحيق الرقائق التي تخرج من قلب الذاكر الواعظ لتقع مباشرة في قلوب السامعين، فتثمر دعوة وخشية وإيمانا.

 يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في رسالته الوعظية:

فيا إخوتي:

قد دَنا رحيل هذا الشهر وحانْ.

فرُبَّ مؤمِّل لقاء مثله خانه الإمكانْ.

فودِّعوه بالأسف والأحزانْ.

واندبوا عليه بألسُن الأسى والأشجانْ.

السلام عليك يا شهر رمضان سلام محب أودى به القلقْ.                

**

السلام عليك يا شهر ضِياء المساجدْ.

السلام عليك يا شهر الذكر والمحامدْ.

السلام عليك يا شهر زرع الحاصِدْ.

السلام عليك يا شهر المتعبِّد الزاهدْ.

السلام عليك من قلب لفراقك فاقدْ.

السلام عليك من عين لفراقك في أرقْ.

السلام عليك يا شهر المصابيحْ.

السلام عليك يا شهر التراويحْ.

السلام عليك يا شهر المُتّجر الربيحْ.

السلام عليك يا شهر الغفران الصريحْ.

السلام عليك يا شهر التبريّ من كل فعل قبيحْ.            

**

فيا ليت شعري هل تعود أيامك علينا أم لا تعودْ.

ويا ليتنا عَلِمنا مَنْ المقبول منا ومَنْ المطرودْ.

ويا ليتنا تحققنا ما تشهد به علينا يوم الورودْ.

ويا أسفا لتصرّمك يا شهر السعودْ.

ويا حزنا على صفاء القلوب وإخلاص السجودْ.

السلام عليك من مودِّع بتوديعك نطقْ.            

**

فرحم الله امرءاً بادر خلاصه في باقي ساعاتهْ.

والتفت إلى وقته واجتهد في مراعاتهْ.

واستعدّ لسفره بإخلاص طاعاتهْ.

واعتذر في بقية شهره من سالف إضاعاتهْ.

واعتبر بمَنْ أمّل أن يرى مثل شهره هذا قبل وفاتهْ.

فتضرَّمت نار أجله في عود أمله فاحترقْ.                 

**

أين مَنْ كان معكم في العام الماضي.

أما قصدته سهام المنون القواضي.

فخلا في لحده بأعماله المواضي.

وكان زاده من جميع ماله الحنوط والخِرَقْ.                

**

فتيقّظ أيها الغافل وانظر بين يديكْ.

واحذر أن يشهد شهر رمضان بالمعاصي عليكْ.

وتزود لرحيلك وانصب الأخرى بين عينيكْ.

واستعدَّ للمنايا قبل أن تمد أيديها إليكْ.

قبل أن يوثق الأسير ويشتد الزفير ويجري العَرقْ.” 

يقول ابن الجوزي رحمه الله في مقطع آخر من رسالته الوعظية الرمضانية:

“فيا أيها المقبول هنيئاً لك بثوابه تثوي بهْ.

وبشراك إذا أمّنك الرب من عقابهْ.

وطوبى لك حيث استخلصك لبابهْ.

وفخراً لك حيث شغلك بكتابهْ.

فاجتهد في بقية شهرك هذا قبل ذهابهْ.

فربّ مؤمّل لقاء مثله ما قُدِّر له ولا اتفقْ.            

**

ويا أيها المطرود في شهر السعادة.

خيبة لك إذا سبقك السادة.

ونجا المجتهدون وأنت أسير الوسادة.

وانسلخ هذا الشهر عنك وما انسلخت عن قبيح العادة.

فأين تلهُفك على الفوات وأين الحُرَق؟”

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى