قانون لحماية المجتمع
تشهد المؤسسة التشريعية ببلادنا مناقشة أحد القوانين المهمة بالنسبة للمجتمع المغرب، ويتعلق الأمر بتعديل القانون الجنائي؛ وهي لحظة تشريعية مهمة ومتميزة بالنظر لموضوعها وسياقها والقضايا التي يرتبط بها.
فإذا كانت مناقشة هذا المشروع قد تأخرت لثلاث سنوات على الأقل، فإن ما يشفع لهذا التأخر هو السعي لتجويد القانون وتطويره بما يجعله خادما للمجتمع ومساعدا على استقراره ونمائه، وحاميا للحرية ومنظما لها، ومواكبا لتطور الجريمة ومستجدات الواقع، ومتجاوبا مع المستجدات الدستورية والاتفاقيات الدولية التي تسعى بلادنا إلى التفاعل المتميز معها دون تجاوز الثوابت الوطنية الكبرى الجامعة للشعب المغربي.
إن هذا المشروع جاء في سياق خاص من أهم معالمه:
- الحاجة للملاءمة مع الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 وخاصة ما يتعلق بحماية حقوق الإنسان.
- تنفيذ توصيات الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة .
- الحاجة لملاءمة التشريع الجنائي مع الاتفاقيات الدولية التي صادق علها المغرب لاسيما تلك المتعلقة بالجريمة العابرة للقارات والإرهاب وحقوق الإنسان.
- مواكبة التطور الكمي والكيفي للجرائم وتأثيرها السلبي على أمن المجتمع وأفراده.
وبغض النظر عن عدد من الملاحظات التي يمكن تسجيلها على مشروع القانون والتي تنتظر بكل تأكيد تفاعلا مجتمعيا وخاصة من لدن الفعاليات الحقوقية والمدنية فضلا عن دور أعضاء البرلمان، من أجل تجويده وتدقيق بعض الصيغ وتفادي العبارات العامة والفضفاضة في بعض الفصول والمواد، فإنه يجدر التنويه وتثمين عدد من المستجدات التي تضمنها المشروع وخاصة ما يلي:
- تجريم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قبيل جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وتجريم الاختفاء القسري، والاتجار بالبشر، وتهريب المهاجرين، والتحريض على الكراهية، بالإضافة إلى إعادة تنظيم مقتضيات التعذيب.
- إقرار العقوبات البديلة بدل الإجراءات السالبة للحرية وتشجيع العدالة التصالحية وتبسيط مسطرة التنازل عن الشكاية، وتخفيف العقوبات وحذف الاعتقال في المخالفات وخاصة ما يتعلق بخفض عدد الجرائم المعاقب عليها بالإعدام من 31 مادة إلى 11 مادة فقط…
- تعزيز حماية الأسرة باعتبارها النواة الأساسية للمجتمع بمنطوق الفصل 32 من الدستور المغربي، حيث نص المشروع على تجريم ترك وإهمال الواجبات الزوجية، وتجريم الامتناع عن إرجاع الزوج المطرود من بيت الزوجية، وتجريم تبديد الزوج لأمواله للتحايل على مستحقات النفقة أو السكن، وكذا حذف الحرمان من المعاشات كعقوبة نظرا لأثر ذلك على الأسرة والأطفال.
- وأيضا ما يتعلق بتعزيز حماية الطفولة حيث استثنى المشروع الاستغلال الجنسي للقاصرين من تطبيق العقوبات البديلة، وعدم إعمال ظروف التخفيف مطلقا في الاعتداءات الجنسية ضد القاصرين بصفة عامة، وتشديد عقوبة التحرش الجنسي إذا ارتكب في مواجهة قاصر، بالإضافة إلى حماية القاصرين ضد المخدرات.
- تعزيز حماية المرأة: حيث تم تجريم الإكراه على الزواج وتشديد عقوبة السب والقذف إذا استهدف المرأة بسبب جنسها والنص على تدبير وقائي جديد في جرائم التحرش أو الاعتداء أو الاستغلال الجنسي أو الاتجار بالبشر ضد المرأة، بالإضافة إلى توسيع مفهوم التحرش الجنسي.
- تجريم محاربة الفساد وإرساء مبادئ الشفافية والنزاهة: نص المشروع على تجريم الإثراء بلا سبب وتجريم استفادة الغير بسوء نية من الجرائم المالية المتعلقة بالاختلاس والغدر والرشوة واستغلال النفوذ، مع استثناء هذه الجرائم من تطبيق العقوبات البديلة، وتشديد العقوبة في جريمة الرشوة عبر اعتبارها جناية.
- ومن بين القضايا المهمة التي تطرق لها المشروع جريمة الإجهاض والتي عرفت سنة 2015 نقاشا ومبادرة ملكية بتكليف لجن مختصة بدراسة الموضوع وإجراء لقاءات واستشارات موسعة مع جميع الفاعلين المعنيين، بغرض إعداد مقترح في قضايا محددة وفي إطار احترام تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والتحلي بفضائل الاجتهاد وبتنسيق وتعاون مع المجلس العلمي الأعلى.
- وما ينبغي تثمينه في هذا الإطار هو المنهجية المعتمدة في تدبير هذه القضية بعيدا عن السجال الإعلامي وسعي بعض الفاعلين إلى فرض أجندة خارجية ومرجعية أخرى غير مرجعية الدولة والمجتمع بالمغرب، وهو ما أفرز اجتهادا معتبرا حافظ على الطابع الجرمي لجريمة الإجهاض وحاول إيجاد حلول لبعض الاستثناءات التي تمس بحياة أو صحة المرأة مع تقييده بعدد من المقتضيات القانونية والتنظيمية التي لا ينبغي تجاوزها. كل ذلك في إطار المرجعية الإسلامية وأحكام الدين السمح وقدرته على التجديد والاجتهاد بما يحفظ النفس البشرية وحرمتها ويرعى نظام الأسرة واستقرار المجتمع .
- هذا التثمين لمختلف التعديلات التي جاء بها المشروع، لا يعني خلو النص المقترح من النقص والقصور ولا ينفي حاجته إلى التعديل والتدقيق، مما يستدعي من أعضاء البرلمان ممارسة صلاحيتهم التشريعية في مختلف المقتضيات وخاصة تلك التي تهم جريمة الإجهاض وذلك من خلال ضبط الحالات الاستثنائية التي تتيح ارتكاب هذه الجريمة مع تقييدها بأقصى الضمانات لتفادي الاستغلال المادي والإيديولوجي للمآسي الاجتماعية والمتاجرة بها لإهدار الحق في الحياة تحت أي منظور يتعارض مع النصوص الشرعية لديننا الحنيف ومع الثوابت الدستورية الجامعة للمغاربة.
إن القانون – أي قانون- ورغم أهميته القصوى لا يكفي لمعالجة عدد من الاختلالات الاجتماعية والتربوية في المجتمعات المعاصرة، فالمقاربة القانونية تظل قاصرة في غياب اعتماد مقاربة وقائية مندمجة تنطلق من التربية على الأخلاق الفاضلة، ونشر قيم العفة، والإعلاء من دور الأسرة وتيسير سبل إنشائها والمحافظة على استقرارها بتحسين الأوضاع المعيشية للشباب؛ ومواجهة دعوات الحرية الجنسية التي لن تخلف سوى الآثار الوخيمة على النظام الأخلاقي والتماسك المجتمعي. واستثمار باقي الأبعاد التعليمية والثقافية والإعلامية لنشر الوعي السليم لدى الأسر والنشء بالمسألة الجنسية، وبالأخطار والنتائج السلبية المترتبة عن الجهل أو الخطأ، وبعد ذلك تأتي المقاربة الصحية والقانونية للإسهام في معالجة بعض الاختلالات التي قد تطرأ على المجتمع وتهدد تماسكه، أو التقليل من آثارها السلبية.
الإصلاح