في نقد ادعاءات مذكرة “من أجل المساواة في الإرث” في التمييز بين قوله تعالى “كُتِب ” و “يوصي”
مما جاء كذلك في مذكرة من أجل المساواة في الإرث[1] أن الوصية مقدمة على نظام الإرث، الذي يعتبر نظاما بديلا في ” حال انعدام الوصية، وحل احتياطي، في حال بقي لدينا شيء من التركة، بعد التقسيم وبعد إعطاء أصحاب الدين حقوقهم، فالوصية هي الأصل الأصيل في توزيع التركة وليس نظام الإرث.”[2] خاصة وأن آية المواريث قد بدأت بفعل ” يوصي” والوصية بفعل ” كتب” وهو دليل على وجوب الوصية وعدم وجوب نظام الإرث، حيث جاء ” في آية الوصية بأنها بدأت بفعل )كتب(، وهذا يوحي بأن لها نفس حكم الآيات التي تم تصديرها بفعل )كتب( كقوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى … “، أما آيات الإرث فقد تم تصديرها بقوله تعالى )يوصيكم( قال تعالى: ” ُوصِيكُمُ اللَّه فُي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ..” ، مما ينفي عن نظام الإرث وآيات الإرث صفة الوجوب، فهي )وصية من الله (غير واجبة، بل مندوبة” [3]
إن الدليل الذي استند إليه من اعد المذكرة في تقديم الوصية على الميراث في تقسيم التركة أصله ما ادعوه في كون آية الوصية بدأت بفعل كتب وآية الميراث بدأت بفعل يوصي وهو كاف في تقديم الوصية عن الميراث، وهو دليل واه لاعتبارات عدة أهمها:
1: الاستقراء:
إن استقراء نصوص القرآن الكريم يؤكد أن الوصية وردت في سياقات عدة كلها توجب فعل الموصى به، كقوله تعالى ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، وقولُه على لسان عيسى بن مريم: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 31، 32]
بل ووردت دالة على أمهات القواعد والأحكام، ومن النصوص الجامعة في ذلك قوله تعالى ” {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 152، 153].
فلو اقتضت الوصية الندب والتخيير لكان المسلم مخيرا بين الإشراك بالله وتوحيده، وبر الآباء وعقهم، وقتل الأولاد والسماح بحياتهم، وفعل الفواحش وتركها، وأكل مال اليتيم وعدم الاقتراب منه، والوفاء بالكيل وعدمه، وقول الحق وضده.. وهو ما لا يقول به جاهل فضلا عن العاقل، مما يثبت ان الوصية أمر من الله يقتضي فعل الموصى به، وترك ضده، يقول الدكتور أحمد الريسوني ” لو نظرنا وتأملنا الأمور المعبرَ عنها في القرآن الكريم بلفظ “وصى” ومشتقاته، لوجدناها من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، التي لا تتغير ولا تتبدل. ومعلوم أن الوصية بالشيء فيها معنى العهد به، والحث عليه، وتوكيد شأنه، وعدمِ التفريط فيه.”
2: الفاصلة القرآنية:
إن قراءة تتمة نص الآية القرآنية التي بدأها الله تعالى بالوصية في تقسيم أنصبة الورثة يثبت وجوب الحكم الذي تضمنه النص بصريح العبارة، حيث يقول الله تعالى ” يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11].
فقوله تعالى فريضة من الله دال على وجوب ما نص الله عليه في الآية وهو ما أثبته القرطبي في تفسيره، بقوله ” قوله تعالى: (فريضة) (فريضة) نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى (يوصيكم) يفرض عليكم”[4] وهو تفسير يناقض مع ما ادعته المذكرة من كون الآية دالة على الندب والتخيير والاستحباب.
3: أقوال المفسرين في قوله تعالى ” يوصيكم”:
ورد في كل كتب التفسير ما يؤكد أن فعل الوصية دال على الوجوب، وهو ما سنمثل له ببعض من نماذج أقول المفسرين وفي مقدمتهم:
- المحرر الوجيز لابن عطية، حيث قال في قوله تعالى ” { يوصيكم } يتضمن الفرض والوجوب ، كما تتضمنه لفظة أمر”[5]
- أحكام القرآن ابن العربي، وقال في شأن آية الوصية “عْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الْأَحْكَامِ ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ : فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ”[6]
- روح المعاني للألوسي، وورد عنه في قوله تعالى { يُوصِيكُمُ الله } شروع في بيان ما أجمل في قوله عز وجل { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } [ النساء : 7 ] الخ ، «والوصية كما قال الراغب : التقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترناً بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات» وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه ، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم ، وبالثاني : فسره في «القاموس» وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة”[7]
- التفسير المنير للزحيلي، وقال في تفسيره لآية الميراث ” يوصيكم الله ويأمركم بذلك ويعهد إليكم به عهدا للعمل به وتنفيذه،….وفي الخاتمة المؤثرة بمن أصغى إليها وفهمها: إشارة إلى أنه تعالى شرع المواريث على هذا النحو، وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة، فمن الواجب الإذعان لوصايا الله وفرائضه، والتزام منهجه وحدوده، فلا ينبغي الاعتداء وهضم الحقوق، أو التعديل في أنظمة الإرث كإعطاء المرأة مثل الرجل، كما في بعض الدّول الإسلامية أخذا بأعراف فاسدة لمصادمتها للنصوص القرآنية القطعية، أو محاكاة لأنظمة الغرب وقوانين البشر، زعما بأن ذلك عدل يقتضي المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، لكن لا عدل بعد عدل الله، ولا رحمة فوق رحمة الله، فإن افتتاح الآيات بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ دليل على أنه تعالى أرحم بالناس من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، ويؤيده الحديث الصحيح: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها” [8].
- معالم التنزيل للبغوي، وقال في قوله عز وجل: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } أي: يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم” [9]
- تفسير مفاتيح الغيب للرازي وقال في الآية ” قال الزجاج : معنى قوله ههنا : { يُوصِيكُمُ } أي يفرض عليكم ، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وصاكم بِهِ } ولا شك في كون ذلك واجبا علينا .”[10]
3: التناقض في المواقف:
ورد في ترافع من اعد المذكرة أن آية الوصية بدأت بفعل (كتب)، وهذا يوحي بأن لها نفس حكم الآيات التي تم تصديرها بفعل (كتب) كقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ” ، لكنهم يترافعون ضد إلغاء عقوبة الاعدام ويتنكرون للآية التي صدرت بقوله تعالى: كتب.
إنه قياس الغرض منه التأكيد على وجوب حكم الوصية مقارنة بآية الميراث، وبتتبع مواقف من أعد المذكرة فهم أنفسهم من يترافع من أجل إلغاء عقوبة الإعدام بمبرر الحق في الحياة، والتماشي مع القوانين والمقرارات الأممية الداعية لإلغاء هذه العقوبة، وهو ما يفيد التناقض في المواقف، والكيل بمكيالين في التعامل مع الأحكام الشرعية بما يتماشى مع خلفياتهم المرجعية وتطلعاتهم في نقض أحكام الشرع وتجاوزها لصالح المقررات والمقتضيات الأممية.
د: محمد ابراهمي
عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح
***
[1] : تنسيقية المناصفة، مارية شرف، أسماء الوديع وآخرون، مذكرة من أجل المساواة في الإرث، ص:19.
[2] : المرجع نفسه، ص: 17
[3] : المرجع نفسه، ص:19.
[4] : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج: 5/ ص: 75.
[5] : المحرر الوجيز، ج:2/ ص: 80.
[6] : أحكام القرآن، ج: 2/ ص: 138.
[7] : روح المعاني الألوسي، ج: 3/ ص: 447.
[8] : التفسير المنير/ ج: 4/ ص: 280.
[9] : معالم التنزيل للبغوي، ج2/ ص: 177.
[10] : مفاتيح الغيب للرازي،/ ج: 5/ ص:78.