في علاج داء الملل والضجر – عبد الحق لمهى
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين محمد عليه الصلاة والسلام.
من المعلوم أن القرآن الكريم جاء بيان عاما لكل شيء، قال تعالى ” وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ” [1].
وما أكثر ما يعرض للناس اليوم من الأشياء التي تحتاج إلى بيان، وفهم لأسبابها، وطرق وعلاجها، ومن ذلك ما نجده واقعا في حياة الانسان من الشعور بالملل، والقلق والسآمة من الحياة، رغم ما يتوفر له من وفرة كل أسباب العيش المادي الكريمالمسخر له.
وجدير بالذكر، أن ما سبق ذكره من العوارض التي تعرض للإنسان، قد يكون لها أثار وخيمة مدمرة لحياته، إذ قد تؤدي به إلى فقدان عقله، فتجد أحيانا بعض الناس أصيبوا بخبال الدماغ، حتى صاروا حمقى في الشارع، ولربما ظهرت عليهم علامات أخرى من قبيل وسخ الثياب، وغيره من المظاهر الدالة على فقدان العقل، وفي أقصى الأحوال الهلاك والموت بطريقة من الطرق مثل الانتحار.
ولعل الناظر في حياة هذا الصنف من الناس يجد الأسباب التي أدت بهم إلى هذا الحال كثيرة متعددة، واحدة منها ـ في نظري ـ حالة الافراط والغلو في الحياة بكل تجلياتها، فتراهم يسرفون في الحرص على دنياهم تاركين أمر الاخرة دون انتباه إليه، أو تراهم يعتنون بالجسد غافلين أو متغافلين عن أمر الروح، وما يحتاجه من العناية اللازمة لضمان سلامتها، أو تجدهم يمجدون العمل، ويقصرون في أداء العبادة، معتبرين” العمل عبادة”، وهذا كلام حق أريد به باطل،والسياق أن القصد منه أبطال العبادةواستبعادها، وجعل العمل قائما مقامها.
سبق الحديث أن هذا القرآن وهو أحدمصادر التشريع الإسلامي،يقدم البيان لما يحتاجه الناس من الأجوبة على قضاياهم واشكالاتهم، فإذ استقر عند العقول السليمة هذا القول، قلنا إن ما عرضناه من العوارض والآفات الناتجة عن حالة عدم التوازن والتوسط بين أمور سبق الحديث عنها، مثل عدم التوسط بين مطالب الروح و الجسد، كل ذلك له جواب وعلاج من القرآن الكريم، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكان من أولي الألباب، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، لاشك أنهيحصل على الدواء لكل ما يعرض له من الامراض، ومن الشفاء الذي عرضه القرآن الكريم هداية لكل حائر، ما يلي :
ـ التوسط بين الدنيا والأخرة فلا تغليب لواحدة على أخرى ، قال تعالى “ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” [2]
ـ التزام التوازن بين العمل والعبادة:للتغلب على آفة الملل وعلاجها، قال تعالى “ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “[3]
ـ إعطاء كل ذي حقه من الجسد والروح : إلى جانب الآيات السالفة الذكر، جاءت أحاديث تحث على الوسطية منها حديث “ أبي جحفة وهب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : آخَى النبي اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال: ما شأنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟! قالتْ: أخوك أبو الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنيا، فجاء أبو الدَّرداءِ فصنع له طعامًا، فقال له : كُلْ، فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكِلٍ حتَّى تأكُلْ، فأكَلَ، فلمَّا كان اللَّيلُ ذهَبَ أبو الدَّرداءِ يقومَ فقال له : نَمْ؛ فنامَ، ثمَّ ذهَبَ يقومُ فقال له: نَمْ، فلمَّا كان من آخر الليل قال سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فصلَّيَا جميعا ، فقال له سلمان : إنَّ لِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، وإن لنفسك عليك حقا، و لِأهلِكَ عليكَ حقًّا؛ فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فأَتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَرَ ذلكَ له ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : صَدَقَ سَلمانُ.” رواه البخاري[4]
صفوة القول مما سبق التطرق إليه، أن الاخذ بقوة بتلك المظاهرمن التوسط والاعتدال، بين الدنيا والاخرة، وبين العمل والعبادة، وإعطاء كل ذي حق حقه، أدواء نافعة لما يجده الانسان المسلم، وغير المسلم من العلل التي تقض مضجعه، وتعكر عليه صفو حياته، وقد تودي به إلى المهالك، إن لم ينتبه لنفسه قبل فوات الأوان، فالبدار البدار إلى الاخذ بجملة التوجيهات المفيدة وليأمر كل واحد منا أهله ليأخذوا بها وقاية لهم من بلاء واقع أو متوقع، وهو الملل موضوع حديثنا في هذه الكلمات.
——-
[1]ـ النحل، 89.
[2]ـ القصص، 77.
[3]ـ سورة الجمعة، 10.
[4]ـ رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، الامام أبو بكر زكريا يحيى بن شرف النووي. المكتبة التوفيقية. باب الاقتصاد في العبادة، رقم الحديث 103.