في عالمٍ هذا حالُهُ – شيروان الشميراني
في مؤتمر صحفي في سراييفو سنة 1995 سأل صحفي الرئيس علي عزت بيغوفيتش ماذا كنت تقصد بكلامك في عالم هذا حاله؟
وكان بيغوفيش قد قال هذه الجملة من ضمن خطاب وجهه الى الشعب البوسني المسلم الذي كان دائماً يوجه اليه الحديث، استعمل هذا التعبير بعد اتفاق دايتون لإنهاء الحرب مع الصرب بدعم أوروبي شبه مطلق، أراد تلخيص حالة العالم الحرّ المتحضر البائس إنسانياً، فقد حاصروا البوسنويين وفتحوا الطرق كلها أمام الصرب للتسلح، وكذلك الدعم الدبلوماسي قابله محاصرة دبلوماسية على البوسنة وذلك من أجل إجباره قبول الشروط الصربية كشرط لوقف الحرب.
وقد شرح علي بيغوفيتش مقصده من الجملة المسؤول عنها، وهو شرح للعالم الذي فقد الشعور والاحساس الإنساني، وقصده كان انه في العالم الذي تخلى عن مبادئه التي هو أسس لها عن حقوق الانسان وشرّع لمبدأ القوة في العلاقات الدولية، العالم الذي حاصر المعتدى عليه، وفتح الطرق أمام المعتدي للتزود بكل شيء ومنه السلاح، العالم الذي لم يخجل فيه الاتحاد الأوروبي على التعامل السلبي مع الحرب ضد دولة هي اعترفت بسيادتها، وفي العالم الذي يقتل فيه البريء ويمارس التجويع بحقه، في عالم هذا حاله هذا كل ما نستطيع الحصول عليه بعد التضحيات الكبيرة.
ففي عالم هذا حاله يحدث كل هذه المظالم، ويجبر صاحب الحق على التنازل من حقه لمن يريد الغصب، وتزهق كل هذه الأرواح البريئة ظلما، ويستعمل نعم الله والتجويع كسلاح في الحرب، تحطم الأبنية وتدمر المدن والقرى تدميراً كاملاً، ويتحول العمران الى ساحات خالية من معالم الحياة ومؤشراتها.
في عالم هذا حاله يستلم الوالد 18 كيلو من الأشلاء على أنها بقايا جثة إبنه لدفنها مزقته صواريخ العالم الحرّ من دون تحديد الهوية الشخصية، كما هو في غزة، في حين تدفن الحيوانات في مكان يرى أصحابها أنه المكان اللائق وفاء لحسنها والمحبة المكنونة في القلوب تجاهها، وفي عالم هذا حاله، يتوقف مجلس الامن عن العمل، وتتعطل فيه المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ويهدد موظفوها، وفي هذا العالم تهان فيه منظمة الأمم المتحدة وترمى قراراتها في البحر داخل المياه الإقليمية في إسرائيل، وتعلن دولة مارقة على النظام الدولي الأمين العام للأمم المتحدة” أنطونيو غوتيريش” شخصاَ غير مرغوب فيه، وتمتنع تلك الدولة عن منح مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” تأشيرة الدخول إلى الأراضي الفلسطينية.
في هذا العالم تقوم القوة العظمى التي كانت ومازالت ترفع راية الحقوق ونشر الحريات، وإنها تقود العالم المتحضر في مجابهة عالم الشر، هذه القوة تقف في وجه جميع المؤسسات الدولية التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية كسبيل لعلاج التوترات في العالم، وقطع الطريق على نشوب حرب كونية ثالثة ووأدها في مهدها. أعادت بالعالم إلى ما قبل قرنين من الزمان، وربما أكثر، هي تكرار لذات المشاهد التي كانت تكوم فيها الجثث نتيجة النزاعات الدموية بين الممالك الغربية، وكذلك بين الشعوب داخل أراضي أمريكا الشمالية.
عادت تلك الروح القديمة العطاشة الى الدماء لحفر وديان لتسيل فيها دماء جديدة، وهي من تقوم بإسالة هذه الدماء في تلك الوديان، هي الروح ذاتها التي ذبحت الهنود الحمر، وتاجرت بالسود من أفريقيا عبر البحار ورميهم طعاماً للحيتان في حال الشعور بثقل السفينة وإحتمال غرقها، ففي عالم هذا حاله تحدث مجزرة النصيرات في غزة، ومذبحة الفجر في مدرسة التابعين عند التكبيرة الأولى لصلاة الفجر، وتنهش الكلاب أجساد الاحياء العزل من وسائل الدفاع، وتنهش جثث الموتى المرمية في الشوارع والأزقة. ويغتصب فيه السجين، ويهان فيه الأسير، وتداس فيه المواثيق الضامنة لحقوق السجناء والأسرى.
لأنّ في هذا العالم إن قوانين ليس الغاب وإنما غابات أمازون التي قرأنا عنها ورأيناها في الأفلام والوحوش غير البشرية التي تعيش فيها، قوانينها هي الحاكمة في العالم والشرق الأوسط على وجه التعيين، والحرب الدائرة على غزة ولبنان بشكل أخص.
في هذا العالم في الدنمارك وبعد 334 عاماً من وجود قانون “التجديف” الذي يمنع الهجوم العلني على الأديان، ألغاه البرلمان في 2017 ولذلك العديد من المتهجمين على الإسلام ونبيه كان من الدنمارك بحرية محمية من القانون والمحاكم، لكن الحكومة منعت حرية المحكمة من النظر حول تزويد إسرائيل بالسلاح وإصدار قرار بشأنه، ما استدعت منظمة العفو الدولية لتوجيه الانتقاد للحكومة الدنماركية.
في هذا العالم المثلية الجنسية من الحقوق التي تهدد الحكومات من أجل توفيرها وتطبيعها مجتمعياً، لكن حق تقرير المصير المنصوص عليه في المعاهدات الدولية وحق طرد المحتل يعلق عن التنفيذ.
لقد لخص رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفرنسية الأسبق”دومينيك دوفيلبان” هذه الحرب في الأوصاف التالية:
– إن ما يحدث في غزة هو أكبر فضيحة تاريخية، لا أحد يتحدث عنها في هذا البلد [فرنسا]، إنه الصمت المطلق، إنها فضيحة حقيقية من حيث الدمقرطية، لا أحد يتحدث عنها، يجب البحث في غوغل من أجل معرفة عدد القتلى في برقية صغيرة، وكل هذا تحت ماذا؟ تحت مسمى الحرب، هذه الحرب هي هكذا ليست مثل الحروب الأخرى في غزة، لأن المدنيين هم الذين يموتون، في غزة الأجساد محطمة، والقلوب محطمة، والأرواح محطمة، والرؤوس محطمة”، فهي فضيحة، وليست فضيحة في مكان محدد أو زمن معين، وإنما هي فضيحة تاريخية، لكن المفضوح سلفاً لا يشعرُ بوقع ثقل الفضائح المتتالية عليه. وربما تشكل تقبل الفضيحة مبدأ من مباديء ممارسة السياسة والسلطة لديه.
ففي عالم هذا حاله لا بدّ من نبي، وبما أن النبوة ختمت، فلا مفر من منهج النبي والنبوة التي تتعامل مع الإنسان بالمنهج الذي جاء من خالق الانسان، والعارف بما يصلح حال عالَمه.