في سفك دم قواعد العمل الجماعي!
التاريخ ديوان العبر .. خاصة في مجال السياسة التي هي مجال اجتهادي ظني، لا يوجد فيه صواب مطلق أو خطأ مطلق، وإنما هي تسديد وتقريب لا يرتبط بالعمل السياسي فحسب بل هو مبدأ عام ..والأهم هو القصد والمثابرة كما في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه ” سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا”.
عند الخلاف أو الفتن ( والفتنة هي الاختلاف السياسي الذي ينتهي إلى شقاق وقد يصل إلى حد التقاتل” يكون أصوب المواقف هو اعتزال تلك الفتن ، لأن اعتزالها هو الموقف الأكثر إيجابية في زمن تزايد السلبيات. وفي زمن تختلط فيها الأمور وتكثر فيه التأويلات ويغلب فيها الشح المطاع، والهوى المتبع وإيثار الدنيا وإعجاب كل ذي رأي برأيه .. ( انظر حديث أبي ثعلبة الخشني).. في مثل هذا الزمن يكون الموقف الأصوب هو عدم الانخراط في متتالية النزاع والشقاق، وأن يمسك الانسان عليه لسانه و يلزم بيته في الحالة القصوى ..
ولزوم البيت أو الاعتزال كما في الحديث ليس دعوة للانسحاب من الانخراط المتواصل في جهود الإصلاح وهيئاته، أو اعتزال النضال والإصلاح ، ولكن اعتزال نواقض العمل الجماعي ومتتاليته، أي الشح المطاع والهوى المتبع وإيثار الدنيا والمصالح والاعجاب بالرأي .. فكم من لسان يزعم النقد والتصحيح وقول الحق تحول إلى معول هدم .. ينقض الأسس الأخلاقية والمؤسساتية للعمل الجماعي .
وكم من لسان يزعم النقد وهو يتحدث عن هوى ومصلحة وتعصب، وتحزب للأشخاص وليس للمبادئ والقيم .. إن ذلك لا يعني السلبية أو الانعزال عن التدافع من أجل الاصلاح.. ولكن يعني عدم الانشغال عن الإصلاح بالنضال في المصلحين وتوجيه سهام النقد إليهم والانشغال بعيوبهم أو نواقص اجتهادهم ..
في العصر الأول من تاريخ الإسلام ابتلي المسلمون بالاختلاف في التقدير السياسي وهذا أمر عادي وطبيعي . كما ابتلي المسلمون بعدهم به في كل زمان ومكان، لكن المشكلة لم تكن في الاختلاف بل في تدبيره منهجيا وأخلاقيا. ففي كثير من الحالات تم الاحتكام عند الاختلاف الى السيف وليس للرأي والحوار. وفي عدد من التجارب المعاصرة المرتبطة بحركات مسلحة تم الاحتكام أيضا لإلى الرصاص بين حركات ذات مرحعيات مختلفة أو حركات تنطلق من نفس المرحعية ( النموذج الأفغاني والفصائل الفلسطينية في بعض المخيمات .. ) .
ومن أضعف الإيمان في تدبير الخلاف الإمساك عن التجريح وعن النصيحة في الملأ أي عن النصيحة الفضيحة. إن استحلال النقد العلني وإشهار الخلاف، وهدر ضوابطه الاخلاقية والمؤسساتية مع استباحة المس بالأشخاص، والنيل منهم ناهيك عن التشكيك في ولائهم وإخلاصهم خط أحمر.. وإشهار الخلاف والنقد العلني خارج مؤسساته هو أحد أسباب توهين هذه المؤسسات وإضعاف مصداقيتها عند عموم الناس. ويتحمل أصحابه قسطا معتبرا من المسؤولية فيما قد تؤول إليه أوضاعها من تراجع أو فتور !! ولن ينكر ذلك إلا مكابر !
وبالرجوع للتاريخ نجد أنه قد نتج عن ذلك كوارث ذهب ضحيتها خليفة من حجم عثمان بن عفان، وقال النبي( ص ) فيه ” ما ضر عثمان ما فعل بعد هذه ” وذلك حين جهز جيشا كامل من من ماله . لكن بعض المتنطعين والمنفلتين سيرتكبون جريمة في حق رجل كان النبي صلى الله يستحيي منه وقال عنه ” ألا استحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه “.
ارتكبت جريمة بشعة في حق ثالث الخلفاء بسبب اجتهاد تدبيري، وهو ” التأول في الأموال ” كما قال بعض العلماء، اجتهاد عارضه بعض الصحابة وركب عليه بعض الغلاة الذين دخلوا عليه فاغتالوه حتى سالت دماؤه على المصحف.. ندم بعض الصحابة المتحمسين ندما شديدا على نقدهم العلني حتى انتشر ذلك في العموم، وكان منهم عبدالله بن عكيم الجهنى الذي قال بعد وقوع الحريمة ” لا أعين على دم خليفة بعد عثمان، قيل له وأعنت على دمه ؟ فقال إنى لأرى ذكر مساوى الرجل عونا على دمه”.
وهناك قاعدة جليلة في مرجعيتنا فيها تأكيد على العمل المؤسساتي و طرح القضايا داخل الهيئات المختصة، وعدم إذاعتها على من ليس معنيا بها أو ليس له القدرة على الإحاطة بها، وبمعطياتها وبتأويلها واستنباط دلالتها وفهم سياقها ودواعيها وردت في قوله تعالى
” وإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلْأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا”.
ودون ذلك فهو إسهام فى إثخان المؤسسات العاملة في حقل الإصلاح بالجراح .. وأعظم الجراح ما أصاب منهج الاصلاح ، حيث تصبح الأولوية معه هي إصلاح الإصلاح، وعدم الإعانة على هدر دماء مؤسساته وإنهاكها دون قصد !! “ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ” فتأمل.”‘