في ذكراها الأولى.. القصة الكاملة لمسيرة العودة الكبرى
بعد سبعة عقود على التهجير، و12 عاما على حصار غزة.. قرر الشعب الفلسطيني أخذ زمام المبادرة بيده، متمثلاً بالقول العربي المشهور “ما حكّ جلدَك مثلُ ظفرِك”، مؤكدًا عظمة هذا الشعب وقدرته على العطاء والتضحية وإفشال كل المؤامرات التي تستهدف قضيته.
ومن مبادرات شبابية وحراك على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى فعل وطني كبير يلتحم به الشعب مع قواه الأساسية في أكبر مشهد وحدوي ووطني أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة اهتمام العالم في وقت كانت تحاك فيه المؤامرة لتصفيتها عبر ما يعرف بصفقة القرن.
فكرة المسيرة ومحدداتها..
هي مسيرة سلمية شعبية انطلقت باتجاه الأراضي التي هُجر منها الفلسطينيون عام 1948م؛ وتهدف لتطبيق حق العودة لهم، وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي دعا بوضوح إلى وجوب السماح بالعودة للاجئين الفلسطينيين، في ذكرى يوم الأرض 30 مارس.
جاءت فكرة المسيرة امتداداً لانطلاقتها الأولى عام 2011م، حيث توجه الفلسطينيون من دول اللجوء العربية إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونجح أفراد في اجتياز الحدود والعودة إلى قراهم التي هجروا منها.
ومع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، (القدس عاصمة لإسرائيل)، ونقله السفارة الأمريكية لها، تصاعدت احتجاجات الفلسطينيين في كل الأراضي الفلسطينية، وفي قطاع غزة، باحتجاجات أسبوعية شعبية برزت قبالة موقع ناحال عوز العسكري، شرقي حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، رفضاً لقرارات ترمب الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، وكان أبرز أحداثها، استشهاد الشاب المقعد إبراهيم أبو ثريا بتاريخ 15 ديسمبر 2017.
مع تسلسل الأحداث، تداعى الفلسطينيون لمواجهة تحديات القضية الفلسطينية التي يخطط ترمب لتصفيتها، وأسسوا هيئة وطنية جامعة أطلقوا عليها اسم “الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار”، نروي قصتها عبر التقرير التالي:
مطلع فبراير 2018م، نصب لاجئون ونشطاء فلسطينيون خياماً للعودة؛ تعبيراً عن تمسكهم بحق العودة، وتحقيقاً لفكرة مسيرات العودة، لتتوالى الخطوات الميدانية، إذ أنشأت “هيئة العودة” 5 مخيمات شعبية قرب السلك الزائل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، شرقي محافظات قطاع غزة الخمس
قالت هيئة المسيرة في بيانها الأول: “سننفر صوب الوطن، سنفترش الأرض وننصب خيام العودة. في الخيمة سنعيد سرد حكايات جداتنا، وسنوقد النار، ونصب القهوة، ونغني الأهازيج الوطنية، وسنحول مشارف الوطن المحرمة علينا إلى ميدان عودة كبير ينادي كل الذين أنهكتهم سنوات اللجوء وأضناهم الحنين إلى معانقة تراب الوطن، وسيسمع العالم كله أصوات اللاجئين بعد 70 عامًا من الانتظار، وسننتصر بعون الله.. وإن رسالة اللاجئين ستصل، ولكل بقاع العالم”.
وفي بيانها الأول، المعنون بـ”العودة قرار شعب” قالت هيئة العودة: “نعلن بزوغ فجر العودة إلى الديار، وأن حراكا جماهيريا قد انطلق وسيتصاعد لينسج خيوط العودة من آمال شعبنا المشرّد، ومن تضحيات شهدائنا وأسرانا وجرحانا، ومن نضالات شعبنا عبر مسيرة الكفاح الممتدة، وعبر مسيرة العودة عام 2011م، وعبر المسيرة العالمية للقدس عام 2012م (..) فتجهّزوا يا جماهير شعبنا ليوم العودة.. فالعودة هي قراركم،،، وآن لهذا القرار أن يتحقق”.
استعداداً لانطلاق المسيرة في يوم الأرض، عقدت اجتماعات موسعة بين الفصائل الفلسطينية وهيئات محلية ومجتمعية وقانونية، للتجهيز للمسيرة، مؤكدين في اجتماعاتٍ رصدها “المركز الفلسطيني للإعلام” أن مسيرة العودة ستفشِل إعلان ترمب أن “القدس عاصمة إسرائيل” ومساعي توطين اللاجئين في دول غير فلسطين.
تزامنت تلك التجهيزات والاستعدادات، مع انطلاق حملة إسرائيلية دعائية تحريضية ضد الفلسطينيين والنشطاء الداعين لانطلاق مسيرات العودة؛ إذ وصفها أحمد أبو ارتيمة -أحد النشطاء الذين نادوا بانطلاق المسيرة- أنها: “تهيئة المناخ السياسي والإعلامي الإسرائيلي لرفع درجة العنف ضد الفعاليات السلمية في المستقبل”، مؤكداً في حينه أن “التجهيزات لمسيرة العودة الكبرى لن تتأثر”.
في الرابع عشر من فبراير 2018م، كشفت فصائل فلسطينية وقائمون على المسيرة لـ”المركز الفلسطيني للإعلام” عن اتفاق بين الفصائل للبدء الفعلي في التحشيد لفعاليات مسيرة العودة؛ بموعدها في 30 مارس، بذكرى يوم الأرض؛ بهدف تحقيق العودة وكسر الحصار عن قطاع غزة لـ”تكون مصدر قلق كبير لدولة الاحتلال، وستضعها في مأزق أخلاقي، وتهوي بروايتها التي تجتهد في تسويقها عالمياً.
بدأ العد التنازلي في السابع من مارس مع استمرار الاستعدادات الفلسطينية محلياً وخارجياً، ليعلن عن تشكيل الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار، بمؤتمر صحفي في قطاع غزة؛ يكون منسقها العام خالد البطش، بعضوية ممثلين عن كل الفصائل الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني، وبالتنسيق مع اللجنة التنسيقية الدولية لمسيرات العودة الكبرى.
قالت الهيئة في بيانها الأول: “الترتيبات مستمرة لإنجاح مسيرات العودة، وبدأت الإجراءات لإقامة مخيمات الاعتصام، والهيئة تضم مؤسسات حقوق الإنسان والعشائر والوجهاء، ولجان اللاجئين والمؤسسات الصحية والقانونية والمرأة الفلسطينية ومختلف قطاعات المجتمع الفلسطيني، وهي مدعومة بقرار سياسي وطني”.
في السابع عشر من مارس، كانت أولى فعاليات هيئة العودة، بتظاهرة شعبية شرقي حي الشجاعية، قبالة موقع “كارني” العسكري الإسرائيلي؛ رفضاً لـصفقة القرن، ودعماً للمسيرة وفعالياتها، بمشاركة شعبية ورسمية حاشدة، وموجة إذاعية إعلامية مفتوحة، واستمرت الفعاليات طوال شهر مارس؛ منها زراعة 1000 شجرة زيتون، وماراثون رياضي، وجلسات للمجلس التشريعي شرقي قطاع غزة.
حاول الاحتلال الإسرائيلي جاهداً إفشال تلك التجهيزات، عبر استهدافه أراضي فارغة شرقي قطاع غزة، وقصف لمراصد المقاومة، وإحراق لخيام العودة، في استفزاز واضح لفصائل المقاومة الفلسطينية لجرها إلى جولة تصعيد قبيل انطلاق المسيرات، بقصف إسرائيلي في مارس 2018م، مع استدعائه لجنود الاحتياط وإلغاء إجازات العاملين في ألويته العسكري
مع كل صباحٍ يصاحب طلوع الشمس، ونقترب فيه ليوم الانطلاقة لمسيرة العودة الكبرى، تتوغل دبابات وجرافات إسرائيلية قبالة المخيمات الخمسة التي أقامتها الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار، شرقي محافظات قطاع غزة الخمس (الشمال شرقي مخيم جباليا، غزة شرقي حي الزيتون، الوسطى شرقي مخيم البريج، خانيونس شرقي بلدة خزاعة، شرقي رفح”، وتجرّف أراضي المواطنين، وتنصب الأسلاك الشائكة على طول الحدود الزائلة مع أراضينا المحتلة عام 1948م، مع حرب إعلامية الكترونية واتصالات هاتفية على النشطاء القائمين على المسيرات.
في يومها الأول، وبجمعة العودة الأولى، انطلق مئات الآلاف من أهالي قطاع غزة نحو مخيمات العودة الخمسة شرقي قطاع غزة، مع مشاركة حاشدة في الضفة الغربية عبر نقاط التماس مع العدو الإسرائيلي؛ ليواجههم بقمع قاتل عبر قنابل الغاز والرصاص المطاطي والحي، وقنص مباشر للمشاركين في المسيرة.
ارتقى 15 شهيداً في اليوم الأول من المسيرة، رصدت عدسات الكاميرات استشهاد عدد منهم، إذ قنصتهم قناصة الاحتلال مباشرة في الرأس وأنحاء متفرق من الجزء العلوي من الجسم.
أهداف مسيرة العودة
بلْور إسماعيل هنية -رئيس الكتب السياسي لحركة حماس- منطلقات مسيرة العودة في ثلاثة أهداف هي:
لتأكيد على تمسكهم بحق العودة الذي أثبتته القرارات الدولية وبقي حياً في ضمير كل فلسطيني.
2- رفض قرار ترمب والإدارة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس وعدّها عاصمة لدولة “إسرائيل”، وهو القرار الذي عُدّ تحدياً للأمة المسلمة كلها؛ لكونه يعتدي على أهم رموزها وواحد من أقدس مقدساتها، الأمر الذي حوّل الولايات المتحدة في الضمير الفلسطيني والإسلامي إلى شريك في العدوان.
3- الإعلان أن غزة لن تقبل الموت البطيء، والمطالبة برفع الحصار فوراً.
فعاليات وطنية وتراثية
نصبت خيام العودة على بعد 400-600 متر من السلك الزائل مع أراضينا المحتلة، لتقام فيها الفعاليات يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، متنوعة بين فعاليات وطنية وتراثية أحيا فيها الأبناء تراث أجدادهم، وذكر الأجداد أحفادهم في أسماء قراهم التي علقت لافتات تحمل تفاصيل عنها، على خيام العودة المنتشرة في المخيمات؛ مع عقد مهرجانات وطنية داعمة للأسرى والمرأة واللاجئين الفلسطينيين، ومعارض فنية وإعلامية.
أعاد أهالي قطاع غزة الحياة إلى الحدود الشرقية؛ عبر إقامتهم موائد للطعام، وإيقاد مواقد الخبز وأفرانه الطينية، وإحياء أعياد ميلاد الأطفال، مع نصب لألعاب ترفيهية تعوّد الاحتلال الإسرائيلي على استهدافها بقنابل الغاز، واعتداء متكرر على مخيمات العودة وخيامه.
قامت المؤسسات الأهلية والشعبية، بالتعاون مع الشباب الثائر والهيئة الوطنية العليا، لقاءات توعوية ثقافية لتعزيز فكرة مسيرات العودة السلمية، عبر ورشات عمل ولقاءات في مخيمات العودة، وقاعات جامعية، تجمع قادة الفصائل الوطنية بالشباب الثائر.
أدوات ووحدات مسيرة العودة
أبدع الشباب الثائر، وهو أحد الركائز الأساسية لمسيرات العودة الكبرى، في ابتكار أدوات سلمية شعبية شبابية، أربكت حسابات العدو الإسرائيلي، منها وحدات: “الكوشوك”، وأبناء الزواري، والطائرات الورقية والصائدة، والبالونات الحارقة (بالونات العودة)، وقص السلك، والإرباك الليلي، والرصد والتوثيق الإعلامي الشبابي، وإخماد قنابل الغاز”.. وغيرها، مدشناً مرحلة جديدة من الكفاح والنضال الوطني.
أطلقت “هيئة العودة” أسماءً وطنية على أسماء الجمع، أبرزها جمعة العودة والكوشوك، وكسر الحصار، ولن نساوم”، في حين بلغت ذروة المسيرات في الخامس عشر من مايو في مليونية العودة، رفضاً لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، في ذكرى سبعينية النكبة الفلسطينية، ارتقى خلالها أكثر من 60 شهيداً.
المسيرة بالأرقام
أظهرت إحصائية رسمية لوزارة الصحة بغزة، استشهاد 266 مواطنا وإصابة أكثر من 30 ألفا منذ انطلاق مسيرة العودة الكبرى في 30 مارس/آذار 2018.
ولم توثق الإحصائية 11 شهيدًا احتجزت قوات الاحتلال جثامينهم، ما يعني أن حصيلة الشهداء خلال هذه المدة 277 شهيدًا.
وقالت وزارة الصحة في بيان لها اليوم الجمعة عشية الذكرى السنوية الأولى لمسيرة العودة: إن بين الشهداء 50 طفلا و6 إناث ومسن واحد، و3 مسعفين وصحفيان.
وذكرت أن حصيلة الجرحى بلغت 30398 اصابة مختلفة منها 16027 إصابة حولت للمستشفيات منهم 3175 طفلا، و1008 سيدة.
ووفق البيان؛ هناك 336 إصابة خطيرة و6834 متوسطة و8266 طفيفة.
أبرز إنجازات مسيرة العودة
اصطفاف الكل الوطني في صف واحد دفاعاً عن القضية الفلسطينية، ومواجهة تحدياتها، ما شكل نموذجاً فريداً في تاريخ القضية الفلسطينية.
برز أهم إنجازات المسيرة في تقرير الأمم المتحدة نهاية فبراير 2019م، بقولها: قوات الاحتلال يجب أن تحاكَم على أعمال قتل في غزة، وارتكاب جرائم حرب، مع وجود أدلة على ارتكاب (إسرائيل) “جرائم ضد الإنسانية” في قمعها لمسيرات العودة، تشكل انتهاكات لحقوق الإنسان الدولية والقانون الإنساني، ورفضت الأمم المتحدة مزاعم الاحتلال الإسرائيلي أن مسيرات العودة كانت تهدف إلى إخفاء “أعمال إرهابية”.
يرى صالح النعامي، الكاتب والمختص في الشأن الصهيوني، أن المسيرة فرضت قطاع غزة على رأس جدول الأعمال السياسي والعسكري والاجتماعي والإعلامي في الكيان الصهيوني، وأجبرت رئيس الأركان الصهيوني (السابق) أيزنكوت على الاعتراف أن غزة تعدّ مصدر التهديد الرئيس على الأمن الصهيوني في الوقت الحالي، وفضحت انعدام ثقة حكومة نتنياهو في السياسات التي تتبعها تجاه غزة، وهو ما عكسه التباين في المواقف الرسمية إزاء المسيرة، إلى جانب تعاظم الدعوات الداخلية لتغيير نمط التعاطي مع القطاع.
وأضاف أن المسيرة أظهرت حالة الهشاشة التي يعيشها كيان الاحتلال؛ ما جعل “تل أبيب” لا تتردد في التوجه لأطراف خارجية لطلب مساعدتها في احتواء الموقف، عدا عن استنزافها الكيان الصهيوني، ومثلت رسالة واضحة للقوى الإقليمية المتهافتة على التعاون مع الصهاينة أن الفلسطينيين قادرون على قلب الطاولة بشكل يعيد الأوراق، كما حملت في طياتها تمكين الفلسطينيين من استعادة زمام المبادرة وتحولهم إلى طرف يؤثر ويتم الأخذ بمواقفه.
المركز الفلسطيني للإعلام