في اليوم الدَّولي لمكافحة الكراهية البحث عن الرَّحمة والمودَّة – شيروان الشميراني
الكراهية من الكره، وهو شعور يمتلك الإنسان، يضُخّ الحقد و تمنيّ إلحاق الاضرار بالآخرين عبر تحقير شأنهم والحطّ من مكانتهم الاجتماعية والتقليل من قيمتهم والخَفض من احترامهم أمام الملأ دون خجل مما يجلب السخرية والامتهان، ولا تقتصر على الافراد وإنما تتعداه وتتوسع دائرتها الى التجمعات الصغيرة والكبيرة بالاستناد الى الدين والقوم، و في العصور الراهنة شمل خطاب الكراهية مجالات أخرى من خَلق العالم الحديث وهو الخطاب الطبقي من الغني الى الفقير ومن البورجوازية إلى الشريحة العاملة المعدَمة ممّا ورّث الضغائن والأحقاد وأدى إلى نشوب حروب أهلية داخل المجتمع الواحد أو بين مجتمع و آخر.
حددت الأمم المتحدة يوم – 18 يونيو – من كل عام يوماً دولياً للتذكير بخطورة الكراهية وضرورة مكافحتها، ومع أنها ليست جديدة لكن وسائل التواصل الحديث زادت من خطورتها، وأكون واحداً من أكثر من اكتوى بنار الكراهية في بلد ” العراق” مزقته حروب ذات خلفيات دينية ومذهبية وعِرقية، ومازال يعيش تحت نارها.
إنّ مجمعاتنا العربية والإسلامية ملأى بخطاب الكراهية، يعجّ بها الإعلام لا سيما في دول معينة شعوبها مكوَّنة من أكثر من قومية أو أكثر من مذهب وطائفة، كالعراق ولبنان واليمن وسوريا، وكذلك الدول المغاربية التي تتعدد فيها الأعراق وتركيا، ولها أسبابها، منها الإعلام حيث العشرات من القنوات السمعية البصرية والمقروءة تضّخُّ مادة مشحونة بالحقد كافية لإشعال حروب داخلية، وحدثت فعلاً كما هو الحال في العراق واليمن خلال العقدين الماضيين، والدول التي فيها أعراق مختلفة فشل نظامها السياسي في احتواء ذلك الإختلاف، وما زالت شرارة الجمر مشتعلة، أضيفت إليها عوامل الحزب والآيدولوجيا والنوادي الرياضية حين يكون وعاءها عقلاً مغلقاً يحمل كمّاً كبيراً من الحقد والكراهية تجاه المنافسين.
كما للسياسة دور كبير حيث تؤلب أجهزة الدولة القُوى المذهبية والعرقية نزولاً إلى القبلية على أخرى من أجل استمرار السيطرة عليهم والتحكم فيهم، وتستدعي عصبيات على أخرى، كما للاستعمار أو الاحتلال – حين يجد ثغرات محلية – دور كبير في إذكاء روح التباغض والحَميّة المذمومة بين الطوائف والأعراق لإبقاء تلك الشعوب ضعيفة هشّة مُمزّقة، وتفضيلِ أحدِهِما على الآخر أحياناً.
الآن ونحن نعيش آثار السابع من أكتوبر والحرب الشرسة على غزة، لا يمكننا تخطي ما يحدث على تلك البقعة من الأرض المباركة، وهي نتيجة للحقد الديني والجانب السيء من زعم التدين، ينشر الكراهية على الجهات الأربع، وربما يشكل جواباً مقنعاً للسؤال المطروح في الغرب: لماذا يكرهوننا؟، إنها ليست كراهة على إنجازات العلم الحديث ولا على الأفكار النيرة التي جاء بها، وإنما كراهة للروح الخبيثة التي انحرفت بتلك المنجزات العلمية نحو تحطيم البنية الخيّرة للإنسانية، وسبَّبَت عزلة للمرتكبين.
وإضافة إلى معالجة الأسباب البشرية تلك وغيرها، فإن البحث عن الرحمة والمودة والوئام وغرسها داخل النفوس، عن الروح الجامعة التي تعطي مذاقاً للحياة، يشكل جزءاً من الجهود التي لا مناص من بذلها لمعالجة الكراهية ونماذج خطاباتها، ولا أنجح من الدِّين الحق في هذا المجال.
إن مبدأ “التعارف” القرآني يشكل أساساً متيناً من الأسس القرآنية التي تخاطب البشرية للتعامل فيما بينهم، والتعارف هو حكمة التعدد، وهو التعامل الاختياري مع المختلفين بالحسنى والتعايش في الخير وبه.
ومن التعارف أن تكون التجمعات مهما كانت أشكالها وهويتها وأحجامها عناصر تؤدي ما شُكِلت لأجلها، وهي المحبة والمودة والرحمة، ابتداء من الدائرة الصغيرة إلى أكبرها، فلم تأت الحياة بهذه التجمعات البشرية من أجل تفجيرها من الداخل وزرع روح الأنانية والحقد والضغينة بين أبنائها، لأنها حينئذٍ تكون حرباً ومَواتاً وليست محبة وحياة. الأسرة مثلاً ” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة” [ الروم: 21]، فغياب الرحمة والمودة معناه انعدام المعنى الحقيقي للأسرة، ومن أجل توسعة المودة والرحمة أباح الله الزواج من المسلم بالكتابية، وبما للزيارات من دور في نشر روح الوئام وتصفية النفوس جعل الله سبحانه من الزيارات والاجتماع على المائدة من خصال المختلفين في الدّين “وطعام اللذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم” [ المائدة: 5]، إن نصّ القرآن على تلك العادات الاجتماعية ليس من أجل تثبيت حليّتها فقط وإنما تلميحاً إلى أهميتها في ترطيب العلاقات، بما للاختلاف من تأثير خطير عندما ينحرف العقل ويضيق إدراكه.
إنّ الخطاب الذي هو القالب والمفردات التي هي الرمح الموجه إلى صدور الآخرين بحاجة إلى أنسنتهما، فقد توعّد الله سبحانه الذين يحتقرون الآخرين لأي سبب كان ” ويل لكل همزة لمزة” [الهمزة: 1]، فالتعيير والتحقير في الخطاب حرام ولو من باب المزاح كما هو شائع بين الأقوام والقبائل، وأبعد منه هو إرشاد القرآن للعباد ” أن يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم” [ الإسراء: 53]، أي يفسد ويهيج نزعة الشرّ لديهم والعداوة بينهم بمفردات خطاباتهم التي يوجهونها لبعضهم. ومن أجل حماية سلامة العلاقات الاجتماعية وروح المودة والأخوة حرّم الله سبحانه الخمر والميسر ” إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر” [ المائدة: 91 ]، والعدل في القول من النقاط التي يستحق الإشارة إليها، لأن العدل من أسس الحياة السليمة وفي القول يمنع من تشويه صورة الآخرين كذباً وبهتاناً.
عند ملاحظة الآيات التي تحذر من وسائل بث الكراهية في القلوب يسندها رب العالمين كلها إلى الشيطان، بما يعني أن الكراهية ونشر الضغينة داخل بني آدم هو مقصد شيطاني ومن مهام إبليس في الحياة، أي أن الاستناد إلى الدّين الإلهي في نشر الكراهية هو محض افتراء. وإذا كان من الله فإنه يأتي في صورة عقاب من سبحانه لكل من ينسى النعم ويكفر بذكر الله.
يقول الأستاذ عباس العقاد: ” إن المودّة والرحمة حكمة الله في خلقه، وإنّ العداوة والبغضاء عقاب لمن يضلّون عن حكمته ومغبة السوء التي تستدرجهم اليها الرّذيلة والمعصية، ومن آمن بالله على هدى هذا الدين فقد آمن بإله يرضيه من عباده أن يسلكوا سبيل المودة والسلام، ويسخطه منهم أن يسلكوا سبيل العداوة والبغضاء”.
فالقضية هنا أكبر وأهم من مسألة السماحة، وما السماحة إلا جزئية من المنهج التربوي الشامل الكامل، والذي يجب أن يكون منسجماً مع طبيعة مهمة الإنسان في الأرض وهي البناء والعمران، وليس الهدم والتخريب، لا على المستوى الإنساني، ولا على مستوى التعامل مع الطبيعة، لأن الإنسان مخلوق ليكون في سلام ووئام مع الكون كله، ومع كل مخلوق فيه.