في البحث عن المعنى في اللامعنى – الحبيب عكي

كثيرة هي الظواهر الاجتماعية التي من الصعب جدا أن يجد لها المرء معنى أي معنى، وهي تسود في عالم اليوم، بل وتهيمن على اختياراته وتوجهاته وقراراته..، إن على مستوى الأفراد والأسر أو الجماعات والمجتمعات. ظواهر اقتصادية وسياسية، اجتماعية دينية وثقافية..، قد لا يكون لها لا أصل ولا فصل لا في الهوية ولا في المرجعية ولا حتى في المنطق العقلاني بخصوصياته الفطرية والطبيعية أو حتى الانتماء الوطني وما يقتضيه من ضوابط ومستلزمات، لكنها رائجة وتسيطر على المشهد ما دام الإعلام الهدام يروج لها كحقيقة، وما دامت السياسة والثقافة تفرضها كواقع كثيرا ما نجح عمليا في كونه أساس الديناميات والتحولات وإن بتجاوز الهويات والمرجعيات والمنطق العقلاني.

ففي فظائع الإبادة الجماعية في غزة الشهيدة السعيدة المجيدة، وصمت “الضمير العالمي” وعجزه عن فرض اتخاد أي موقف عملي لإيقافها، أي معنى لكل هذا الظلم والعدوان الصهيو – أمريكي في عهد مجلس الأمن الدولي وما يرعاه – أو يفترض أن يرعاه – من السلم العالمي وحق الشعوب في التحرر ومحاربة الاحتلال والاستيطان؟، أي معنى للأخوة الإسلامية والرابطة الإنسانية في ظل كل هذا التخاذل الرهيب والفرجة المعتادة على المأساة، بل وتطبيع بعض الأنظمة الجبانة مع العدو، وإغداق بعضها الآخر بسخاء على “ترامبولا” المجنون ما يمول به الحرب وزيادة؟، والوفاء له بكبت حرية شعوبها حتى في تنظيم فعاليات تضامنية مجدية وعدم فتح معابر النجدة لمرور المساعدات.

أي معنى لقتل نساء وأطفال شعب أصيل مسالم؟، لتدمير البيوت على أهلها بالليل والنهار؟، لحرق الأرض والخصوبة وشجر الزيتون المبارك؟، لدك المساجد والكنائس على المصلين، لإعطاب المصابين وتشريد الناجين وتهجير الباقين إلى الجحيم..؟، لقصف المستشفيات والمدارس، وتجمعات توزيع المساعدات، لبناء المستوطنات على الأراضي المغتصبة؟، لتكثيف معابر التفتيش الجهنمية والاسلاك الكهربائية على الطرقات، لرفض جوازات وتصاريح المرور الممنوع بأي وجه كان؟، لغلق المعابر حتى في دول الجوار؟، لملإ سجون الاحتلال بالأبرياء حتى من الشيوخ والأطفال؟، للاستنبات الدائم لمخيمات اللاجئين؟، لرفض عودة المبعدين؟، لإفشال كل وساطات المتدخلين حتى المنحازين لكيانهم، وخرق مواثيق الاتفاقيات السابقة وقوانين المنتظم الدولي لمنع الحرب وحفظ السلام؟.

أي معنى للصمت إذا وجب الكلام وقد وجب؟، وأي معنى للخذلان إذا وجبت النصرة وقد وجبت؟، أي معنى للعجز إذا وجبت القدرة وقد وجبت؟، أي معنى للحرب والدمار إذا وجب السلم والأمن وقد وجب واستوجب؟، لا معنى أي معنى عند الأقوياء غير الظلم والعدوان؟، لا معنى غير الجبروت والطغيان؟، ولا معنى أي معنى عند الضعفاء غير الذل والهوان؟، لا معنى غير الجبن وعمل الشيطان؟، لا معنى غير التشرذم كشظايا النيران يحرق بعضها بعضا؟، لا معنى غير التفريط في تعاليم الرحمان والامساك بما ارتضاه من حباله للإنسان؟. لا معنى أي معنى غير العبث واليأس والاستسلام لحديث القصعة والغوثائية: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. حب الدنيا وكراهية الموت”؟.

إن المعنى واللامعنى لا يسود أحدهما إلا على حساب الآخر كالحق والباطل، فلا يمكن أن يكون المعنى في بعض مظاهر الحياة وهو غائب في جلها فكيف بأهمها؟، فهل ساد اللامعنى حتى غاب المعنى أو يكاد، أم أنه لا يزال المعنى حتى في اللامعنى، وبالتالي يصبح من أوجب واجبات المتعاطي مع الشأن المجتمعي وديناميات التنمية والإصلاح، أن يبحث عن ذلك المعنى في ذلك اللامعنى بدل اختزال غير المختزل وتشويه ما لا يشوه، لأن كل قول وفعل يحتمل المعنى ونقيضه، وحتى الأشياء في الطبيعة دلالتها مما يعطيها الإنسان، ولا يمكن التعامل الإيجابي معها إلا بفهم المعنى من النقيض، ولكن هيهات هيهات؟، يحكى أن طفلا في أحضان أبيه أراد جلب انتباه ليلعب معه وهو مشغول عنه بقراءة الجريدة، فما كان من الطفل إلا أن مزقها في وجهه؟، الدافع مفهوم وله معنى والفعل مرفوض وبلا معنى؟، وقيل لإحداهن في متوسط العمر احتراما: “يا حاجة”؟، فردت رافضة بسباب فاضح: “أمك اللي حاجة”؟، رافضة بذلك الحج والاحترام وما لف لفهما من أجل أن تبقى على صورة شابة صغيرة ليست حقيقتها وهي تعلم ذلك.

وقياسا على ذلك، أي معنى أيضا للرغبة الجامحة لبعض الشباب وعزمهم على الهجرة متى فتحت لهم الأبواب واتجاه ما فتحت؟. أي معنى حتى لمن لم يهاجروا ومهرجان تافه يجمع منهم ما لم تجمعه هموم الأمة ولا حتى همومهم المزمنة؟. أي معنى في من يزين لهم الهدر العلمي ويشيطن لهم النضال السياسي ويضطرهم إلى اليأس والقعود والعزلة إن لم يكن الانحراف وهم أحوج ما يحتاجون إلى الاستقامة والنهوض والحركة والترافع والتدافع؟. ما المعني الكامن في الصراع المحتدم بين الخطابات الدينية من الخطاب السياسي حد الثورية إلى الخطاب الطقوسي حد القبورية؟

ما المعنى الكامن وراء كل هذا التشظي الهوياتي من أقصاها التوحيدي رغم التعدد إلى أقصاها التجزيئي رغم المصير المشترك؟. هذه الهلوسة الكروية العارمة، إلى أي حد هي حامل تنموي فعلي أو مجرد شجرة تخفي من الغابات ما تخفي؟، أي معنى في التهجم على من يدعو إلى محاربة البطالة والعنوسة وقد ولغت في أوساطنا بالملايين وبلغت أرقاما لا تطاق ( 8 ملايين)؟، أي معنى في من يطبعون مع الأشكال الجديدة والمنحرفة للمعاشرة بين الجنسين وهي لا تخدم لا الأسرة ولا المجتمع ولا حتى ضحاياها، أين كل أوجه هذا اللامعنى المعاصر من أوجهه القديمة وغاية ما تمثل فيه بعض الحشو والتكرار في الكلام أو بعض الجمل الاعتراضية معلومة الدلالة أو الفارغة التي لا محل لها من الاعراب؟.

إن اللامعنى هو ضد المعنى وغيابه في الأمر، وهو تيار فلسفي قديم ساد مع الوجودية والعبثية لـ”ألبير كامو” و”جون بول سارتر”.. “مارتن هايديغر”.. “فرانز كافاكا”.. “صمويل بيكيت”.. “أوجين يونسكو”.. وكلهم ممن أبدعوا في التنظير الفلسفي والأدب المسرحي والروائي العبثي العدمي، وهو طافح بما يرونه من أن الكون -حسبهم- فيه عبث وفوضى ولا وازع ديني أو قيمي وأخلاقي فيه بعض المعنى.. إن الإنسان عندهم حر في حد ذاته وهو مسؤول عن أن يضع معنى لحياته وأن يختار ما يريده لا ما يراد له من أي كان؟، وهكذا وبوهم الحرية الوجودية والذاتية العبثية قد يدخل المعتقد بهذه الأفكار في مغارة من التيه والحيرة والاضطراب لا تنتهي في الغالب وعبر التجارب المريرة إلا بالخواء الروحي واليأس النفسي والحيرة والاضطراب والانسحاب والاكتئاب والضياع إن لم يكن الانتحار أحيانا كثيرة، قال تعالى: “أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم” الملك/ 22؟.

إن الوجودية هي مشي في الطريق الخطأ، كمن دخل في الظلام وهو يريد الولوج إلى النور، أو من أراد الذهاب إلى مسجد في الجنوب فإذا به في ملهى في الشمال، هي عبث وأقصى درجات من العزلة ومن الفردانية الغارقة في المتعة اللحظية مهما كانت تافهة فكيفي صاحبها أنها تضرب عرض الحائط بكل ما هو معايير اجتماعية وقيم دينية وأخلاقية أو حتى أية إمكانية لفعل جماعي راشد من المعتقدات أو من الموافقات التي تحترم المعنى، فكل فرد في وجوديته يعتبر عالما في حد ذاته ولا ينبغي له الاصغاء إلا لذاته واختياره – بغض النظر – أكانت هذه الإصغاءات والاختيارات الأخرى مناسبة وعلى صواب محل إجماع وقوانين أم لا ؟، فـ”نيتشه” أعلن موت الإله لينصب بدله الذات الإنسانية والحرية والحداثة..، و”سارتر” يرى أن: “الجحيم هو الآخرون”، وبالتالي وضدا على “فرانكل” صاحب مدرسة العلاج النفسي بالمعنى، لا مكان لأحد أن يرفض سلوك الآخر مهما اتصف باللامعنى أو يتدخل في حياة أحد ويعطيها بعض المعنى، فالوجوديون في وهمهم يوجدون والعبثيون في عبثهم يعبثون، وسيظلون كذلك ما لم يدركوا أن الأمور الجادة إنما تدرك بالأمل والعمل وثقافة المعنى لا باليأس والاستسلام وتفاهة اللامعنى؟.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى