فلولي يكتب عن خلفيات سحب الحكومة لمشروع قانون تجريم الإثراء غير المشروع
لم تكمل الحكومة الجديدة شهرا على تنصيبها حتى بادرت لسحب مشروع تعديل القانون الجنائي من خلال مراسلة وجهها رئيس الحكومة إلى رئيس مجلس النواب خلال الجلسة الأسبوعية المنعقدة بتاريخ 8 نونبر 2021، وقد أثارت هذه الخطوة استغرابا لكون المشروع قطع مراحل متقدمة في الهيئة التشريعية، وتوقف بسبب الخلاف حول المقتضيات المتعلقة بتجريم الإثراء غير المشروع. كما أنها خلفت استياء كبيرا عبرت عنه عدد من الشخصيات وفعاليات المجتمع المدني -معتبرة ذلك تراجعا وخطوة تناقض الخطاب الرسمي للدولة، الذي ظل منذ أعوام يرفع شعار محاربة الفساد، وربْط المسؤولية بالمحاسبة نظرا لكون مشروع التعديل يضم بنداً يجرم الإثراء غير المشروع ويرتب جزاءات على المخالفين لمقتضياته.
من جهة أخرى فقد عزز الشعور بالتخوف ما قدم من مبررات من طرف الحكومة وبعض وزرائها، لسجب المشروع، فقد جاء تصريح وزير العدل يوم الأربعاء 10 نونبر 2020 عند حلوله ضيفا على برنامج “حديث مع الصحافة” على القناة الثانية، ليؤكد أن قرار الحكومة سحب مشروع القانون المتضمن لفقرة تنص على تجريم الإثراء غير المشروع، جاء بناء على طلب منه والهدف هو مراجعة شاملة للقانون الجنائي والمسطرة الجنائية لأن هناك قضايا كثيرة لم يصلحها المشروع الذي سحب من البرلمان.”
ويوم الخميس 11 نونبر 2021 صرح الناطق باسم الحكومة خلال ندوة صحفية عقب انعقاد مجلس الحكومة “أن هذا المشروع، الذي تم إيداعه بمجلس النواب في سنة 2016، وظل يرواح مكانه منذ ذلك الحين، كان يتضمن تعديلات على مقتضيين اثنين أو ثلاثة مقتضيات، غير أن المنظومة الجنائية تتطلب إدخال تعديلات على مجموعة أخرى من المقتضيات الجنائية بالنظر للمتغيرات الكثيرة التي همت هذه الفترة.
وهذه التصريحات الحكومية تعيد بشكل واضح إلى الأذهان النقاش الذي أثير حول مشروع 10.16 الذي يقضي بتغيير وتتميم القانون الجنائي المعروض على البرلمان منذ عام 2016 والذي عرف تأخرا وعرقلة واضحين طيلة ولايتين حكوميتين ولم يكتب له الخروج إلى حيز الوجود.
ويخشى أن يتم بهذه الخطوة الأخيرة للحكومة إقبار المشروع وإجهاض الأمل في الحصول على تشريع يعزز حماية المال العام ضد الفساد واستغلال النفوذ وجمع الثروة من خلال الوصول لمراكز القرار والسلطة.
تجدر الإشارة إلى أنه بتاريخ 9 يونيو 2016، وفي ظل الحكومة التي ترأسها الأستاذ عبد الإله ابن كيران، أعدت وزارة العدل والحريات التي كانت تحت إشراف ذ. المصطفى الرميد مشروع قانون لتعديل مجموعة القانون الجنائي تفعيلا لتوصيات الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة. وقد تمت إحالة المشروع على مجلس النواب، ثم على لجنة العدل والتشريع التي واكب أشغالها ومدارستها للمشروع نقاش عمومي مجتمعي حول عدد من القضايا المهمة التي جاء بها المشروع. وقد استمر النقاش في مجلس النواب لمدة ثلاث سنوات دون المصادقة على المشروع مما جعل الرأي العام يتساءل بقوة عن الأسباب التي تقف وراء تأجيل اللجوء للمصادقة وإطالة أمد النقاش، وعن الجهات التي تتحمل مسؤولية التأخير في اعتماد مشروع القانون الجنائي المعروض على البرلمان.
وقد كان جواب وزير العدل السابق السيد بنعبدالقادر، خلال جلسة للأسئلة الشفهية بتاريخ 11 فبراير 2020 بمجلس المستشارين، إن «الحكومة الحالية لم يسبق لها أن ناقشت هذا القانون نهائياً، منذ تشكيلها بتاريخ 5 أبريل 2017»، مبرزاً أنها كحكومة جديدة متجددة، من حقها أن تحاط علماً بهذا القانون، وأن تطلع على محتوياته لتتخذ القرار المناسب لاستكمال مسطرة التشريع».
وظهر من خلال هذا الموقف أن هناك إرادة لوقف مناقشة المشروع خاصة مع مابدأ يثار من طرف عدد من النواب والرأي العام عن السبب الحقيقي وراء تأخر المصادقة، علما انه في آخر الولاية السابقة تمت برمجة مناقشة المشروع مجددا وأعطيت آجال لوضع تعديلات الفرق النيابية وتم تمديدها ومع ذلك لم يتم التوافق حول صيغة معينة من أجل المناقشة والمصادقة، وانتهت الدورة البرلمانية الأخيرة في الولاية التشريعية السابقة دون المصادقة على مشروع القانون. وهو ما دفع عددا من البرلمانيين الى التعبير عن غضبهم وتحميل المسؤولية لبعض الجهات النافذة، وتفسير سبب عدم المصادقة برفض المقتضيات المتعلقة بتجريم الإثراء بدون سبب.
إن المادة 8-256 التي تتعلق ب” الإثراء غير المشروع” والتي أتت لملاءمة القانون الجنائي المغربي مع المواثيق الدولية المتعلقة بمحاربة الفساد تنص على ما يلي: “يعد مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، ويعاقب بغرامة من 100000 إلى 1000000 درهم، كل شخص ملزم بالتصريح الإجباري بالممتلكات طبقا للتشريع الجاري به العمل، ثبت بعد توليه للوظيفة أو المهمة أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح، عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة انطلاقا من التصريح الذي أودعه المعني بالأمر بعد صدور هذا القانون، مقارنة مع مصادر دخله المشروعة، ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة”.
ويتبين أن إقرارها ضمن تعديلات القانون الجنائي ستجعل الكثير من المسؤولين يتوجسون ويتخوفون لكون هذه المقتضيات تساهم في تفعيل مبدأ من أين لك هذا؟ وتعزز المبدأ الدستوري الخاص بالمسؤولية والمحاسبة وأيضا تُعَبِّد الطريق لوضع قيود حول الجمع بين الثروة والسلطة من جهة، ومن جهة ثانية، تكرس قيم الشفافية والنزاهة وتُحَصّن المال العام من كل الممارسات التي تدخل في جرائم الأموال خاصة ما يتعلق باستغلال النفوذ والاختلاس والرشوة.
وكان جليا منذ وضع المشروع أن هناك إرادة لإقباره وعرقلة مناقشته بطرح نقاشات مغلوطة وجانبية حول الحريات الفردية رغم أن المشروع لم يتطرق إليها بتاتا من قبيل ما يسمى ب “عدم تجريم العلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج” أو بالتركيز على موضوع الإجهاض الذي تم الحسم فيه بتحكيم ملكي وجاء إدراجه في المشروع انسجاما مع ما توصلت إليه اللجنة التي كان عاهل البلاد قد كلفها بوضع مقترح متكامل يستحضر الجانب الشرعي والطبي والاجتماعي والقانوني لإقرار تعديل بشأنه.
وطيلة هذا المسار ظل مقتضى تجريم الإثراء غير المشروع هو نقطة الخلاف بين من يريد الحفاظ على حرمة المال العام وتحصينه من كل الممارسات المنافية للقوانين الجاري بها العمل، وبين من يريد العرقلة وخدمة مصالح الفئات التي قد تتضرر من إقرار مثل هذه المقتضيات. هذه العرقلة والمقاومة الشديدة للمصادقة على قانون يتضمن تجريم الإثراء غير المشروع هي التي جعلت وزير الدولة السابق المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان خلال مشاركته في أشغال الدورة الحادية عشر للجامعة الشعبية المنظمة من طرف الحركة الشعبية خلال نهاية نونبر 2019 يصرح ب” أن السبب الرئيسي ل،” البلوكاج ” الذي يعرفه القانون الجنائي، هو تضمنه لفصل يجرم الإثراء غير المشروع، واتهم حزبا قويا في المعارضة يضغط على بعض مكونات الأغلبية لعرقلة خروج القانون الجنائي الجديد”.
ومن نقط الخلاف حول المادة موضوع النقاش السماح بتدخل النيابة العامة للبحث وتحريك مسطرة المتابعة، وهو ما تتحفظ عليه فرق من الأغلبية والمعارضة تحت ذريعة إمكانية استغلالها سياسيا ضد بعض الأشخاص. وهي مبررات وذرائع واهية للحيلولة دون إصدار تشريع يعاقب على تكديس الثروة من خلال السلطة والمسؤولية في الإدارة والتي تعج تقارير المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات بفضائح واختلالات وجرائم لازالت لحد الآن حبيسة الرفوف ولم يكتب لها التفعيل بسبب عدم القدرة على الكشف عن مصادر مراكمة الثروة لبعض المسؤولين الذين أصبحوا أغنياء فجأة، وذلك بسبب عدم توفر الإطار القانوني الذي سيمكن الهيئات المكلفة بتنفيذ القانون من القيام بذلك.
لذا يغدو الشك مشروعا في الأسباب الحقيقية لسحب مشروع القانون، خاصة من جهة في ظل خلو التصريح الحكومي من أي إجراء يهم محاربة الفساد، ومع حل اللجنة التي كان قد شكلها رئيس الحكومة السابق لتنزيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد على صعيد رئاسة الحكومة وإعفاء أعضائها، ومن جهة أخرى فالسحب هم فقط مشروع القانون الجنائي في حين عشرات مشاريع ومقترحات القوانين لازالت تنتظر دورها للمناقشة ولم يطلها أي سحب باعتبار الحكومة الجديدة لم يكن لها أي اطلاع عليها وتحتاج هي أيضا للمراجعة الشاملة، كل ذلك يؤكد ان ما يقدم من مبررات غير مسنودة واقعيا وبذلك تصبح العلاقة بين الثروة والسلطة مشوبة بالغموض وموضع تساؤل وعدم ارتياح؟
بقلم ذ. رشيد فلولي
عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح
مسؤول اللجنة الحقوقية والقانونية