فلسطين ما وراء الحكاية – حفصة ساف
كان طوفان الأقصى بداية تحرر الإنسانية من قيود وأغلال السرطان الصهيوني الذي أهلك الأخضر واليابس بترسانته الإعلامية والعسكرية والفكرية والاقتصادية، والذي بدأ منذ قرون بالعمل التدريجي المنظم والجاد وبخطوات دقيقة تبناها فلاسفة وكتاب صهاينة على رأسهم “ثيودور هرتزل” والذي كان نقطة تحول عملي لتأسيس دولة ووطن قومي لليهود أو ما يسمى ب”غيتو جديد”.
ففي كتابه “دولة اليهود” أدرج أربعة محاور لبناء الوطن القومي بناءا على أساطير عدة من بينها “شعب الله المختار”، “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب” وغيرها، ولعب على الأوتار الحساسة لجميع الطوائف اليهودية شيوعية، ماركسية ، أصولية.. بتجسيد معاناة اليهود والظلم والاضطهاد الذي تعرضوا له في المجازر والإبادات والمذابح (مذبحة إبان اغتيال قيصر روسيا، مذبحة أوديسا، التطهير العرقي لليهود من طرف الرومان وغيرها…..)، وكذا القوانين الأوربية التي كانت تهضم حقوق اليهود ولا تحميهم.
لذا كان السؤال المطروح دائما، هل طبيعة اليهود الشريرة النابعة منهم أصيلة فيهم؟ أم هي نتاج للاضطهاد والظلم المطبق عليهم؟
للجواب على هذا السؤال لابد من استحضار تاريخ اليهود في عصور مضت، ففي عهد صلاح الدين الأيوبي والذي عاش معه اليهود فترة رخاء ورغد لم يسبق لهم أن عاشوها مع أمم سابقة حتى أن طبيب صلاح الدين كان اليهودي موسى بن ميمون، والذي انتقل بعد ذلك للأندلس. أما الأندلس فقد عاش فيها اليهود كذلك الازدهار والعصر الذهبي مع المسلمين.
وبعد سقوط الأندلس، أصبح اليهود أداة تجسس في يد الصليبيين يعذبون المسلمين ويغدرون بهم حتى أن موسى بن ميمون كتب أسفارا تدل على الحقد الدفين والطبيعة الشريرة لليهود، وكمثال على ذلك “تحل الزنا بغير اليهودية فهي كالبهيمة…”.
عاش اليهود مع عبد الحميد الثاني أثناء الخلافة العثمانية في سلام وهناء إلى أن خانوا العهد وانقلبوا عليه بمباركة بريطانية صهيونية، فهذا ديدنهم وحالهم حتى مع من أحسن إليهم.
ولما كانوا يعانون من الاضطهاد وعدم الاندماج في المجتمعات الأخرى خاصة الأوروبية، وجد زعيمهم “هرتزل” حلا للمسألة اليهودية في قلب العالم الإسلامي في فلسطين، فمارسوا ثقافة الإبادة ( سفر يشوع، نبوءة إشعياء..) ومارسوا التطهير العرقي الذي كانوا يعانونه من قبل على شعب بريء أعزل لم يكن سببا في معاناتهم، فلم يكن ألمانيا(التي قامت بالهولوكست) أو روسيا(مذبحة أوديسا، مذبحة 1881 عقب اغتيال القيصر الروسي).
ورغم الحل الذي اقترحه هرتزل فقد كان الشعب اليهودي ضحية لأساطير توراتية بيوريتانية ومخططات توسعية رأسمالية وقاعدة لأطماع غربية في منطقة شرقية ينعدم فيها الأمن والاستقرار النفسي والمساواة في ظل الاختلاف العرقي واللغوي والحضاري لكل الطوائف اليهودية على أنقاض الدولة المزعومة.
ورغم هذا الوطن القومي مازال يعيش اليهود شتاتا واضطرابا في الهوية، لا يمتلكون حبا للوطن ولا للتراب ولا يؤمنون بقضية ضحى من أجلها هرتزل وأمثاله ك “بن غوريون ومناحيم بيغن”..، بل نرى مجتمعا علمانيا يمثل الأغلبية الساحقة انتشر فيه الفساد والشذوذ الجنسي والتشرذم الأسري على أوسع نطاق مما سهل ضعف وانهيار المجتمع الإسرائيلي.
في مقابل ذلك نرى المجتمع الفلسطيني أكثر تماسكا مما كان عليه من قبل، عائلات وأسر متلاحمة، المقاومة الفلسطينية طورت سلاحها وتوافد الشباب نحو تحرير الوطن والدفاع عن الأهل والتضحية بالغالي والنفيس عن طريق المقاومة والتسلح، واكتست المقاومة في ثمانينات القرن الماضي طابعا إسلاميا كان سببا في تقوية مفهوم الجهاد والتمكين والوعد بنصر الله، والتي كانت قبل ذلك(المقاومة) تكتسي حلة اشتراكية شيوعية في غالبها.
كان الطوفان حبل نجاة وصمام أمان للإنسانية تعيش فيه فترة نقاهة من المادية المحضة لتكمل سيرها في طريق المناعة الفكرية والتحرر الثقافي.