فقه التسوية والتزكية.. تأصيل وتفصيل
قبل تبيين أصل هذا الفقه من الكتاب والسنة ودليله، وجب التنبيه إلى أن فقه التسوية والتزكية ليس فقها جديدا مبتدعا يختلف عن الفقه المعروف من حيث أصوله وفروعه. بل هو، أصولا وفروعا. وكما سبق ذكره في المدخل التعريفي المختصر، هو الفقه الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ورباهم به وعليه، علما وعملا.. نظرا وسلوكا. واستمر فيهم وفي من جاء بعدهم من قرون الصلاح والخير الثلاثة الأولى المذكورة في الحديث النبوي الشريف: ((خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ – قالَ عِمْرانُ [راوي الحديث]: فَما أدْرِي: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا – ثُمَّ يَكونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَنْذُرُونَ ولا يَفُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ)) رواه البخاري.
وقد فطن أئمة التجديد والإحياء الإسلامي إلى هذا الفقه وأهميته في بناء الفرد والمجتمع والأمة وهداية البشرية. وفطنوا كذلك إلى ما لحق حقيقته من تشوه وضعف وتقهقر في وعي الأمة فاجتهدوا في إحيائه وتجديده ونشره بين طلبتهم في حلق العلم، وبين عامة المسلمين في مجالس التذكير. ومنهم من حرر معناه الأصيل ونبه على سبب العطب والانحراف عنه. ومن أبرز من فعل ذلك وسلك تلك المسالك الأصيلة، حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ـ مجدد القرن الخامس الهجري ـ رحمه الله.. فقد قال في موسوعته التي أقامها على إحياء هذا الفقه (فقه التسوية والتزكية) التي سماها ب(إحياء علوم الدين): ((اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول وهي خمسة ألفاظ الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة(…).
اللفظ الأول الفقه (وهو مناط بحثنا) فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها فمن كان أشد تعمقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال هو الأفقه.. ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً ـ أي يطلق ـ على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب. ويدلك عليه قوله عز وجل ((لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم)) وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه. دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة. فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف. بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له [أي لفقه الفروع]. وقال تعالى: ((لهم قلوب لا يفقهون بها)) وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى (…)
وقد سأل فرقد السبخي الحسن ـ البصري ـ عن شيء فأجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك. فقال الحسن رحمه الله: ((ثكلتك أمك فُرَيْقِد، وهل رأيت فقيهاً بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم)) ولم يقل في جميع ذلك، الحافظ لفروع الفتاوى. ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر. فبان من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب ووجدوا على ذلك معيناً من الطبع)) انتهى كلام الغزالي.
ولو استرسلت مع تداعياتي الذهنية لما توقفت عند الغزالي فقط ولاقتبست شواهد أخرى من علماء كثر كسلطان العلماء العز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ المقاصد الشاطبي وولي الله الدهلوي صاحب (حجة الله البالغة) وغيرهم كثير من القدامى والمحدثين وإن كان عدد المحدثين أقل بكثير من السابقين وأضعف منهم تناولا للموضوع من وجهه الحق، إلا قلة قليلة تكاد تعد على رؤوس الأصابع. سنتوقف عند بعضهم وقفات متكررة حسب استدعاءات السياق. ونمر بآخرين مر الكرام للتذكير والتنبيه لمن أراد أن يتوسع في البحث والفهم لفقه التسوية والتزكية.