فضائل الهدي النبوي على طفولة الأمة – الحبيب عكي
كثيرة هي الجهود المبذولة من أجل حسن تنشئة الطفولة وأجيال المستقبل، في مختلف المجالات، ومن طرف العديد من الهيئات والمؤسسات، وبعشرات الاستراتيجيات والأطقم والميزانيات، ولكن – مع الأسف – لا يزال واقع الحال ولغة الأرقام يؤكدان أن المهمة التربوية التنموية النهضوية المصيرية والحتمية لا تزال في تعثر دائم، بل وتواجه تحديات مستحدثة تزيدها تعقيدا إن لم نقل تجعلها في حالة استحالة. مهم جدا أن يعمل الناس، ولكن أهم منه كيف يعملون؟ وأين..ومتى..وبمن..ومع من..؟ وإلا كان عملهم مهما بلغت قوته وتظافرت جهوده، يبقى مجرد حسن النوايا كحسن نوايا من يريدون إبحار السفينة ولو على الرمال، كذبوا كما قيل، لو صدقوا لأحسنوا العمل.
إن الطفل في التعليم الابتدائي مثلا، يراد منه إتقان بعض المهارات كالقراءة والكتابة والحساب، وتنمية رصيده من المفاهيم والقيم الإسلامية والوطنية، فهل يتجاوزه وقد تملكها؟، أو بكم يتملكها، والإحصاء يشير إلى أن 70% لا يتملكونها كما ينبغي، حسب صرح بذلك وزير القطاع، والطفل في مجال الصحة يحتاج إلى سرير وطبيب ودواء..، وقبلها وبعدها يحتاج إلى التحسيس والتوعية والوقاية والعناية، فهل يجدهما؟ أو على الأصح بكم يجدهما وكثير من الفضاءات لا تعير اهتماما لذلك، وقد لا تكون لديها وسائل ذلك ولا ثقافته. وكم من طفل في مدارات التيه يجرفه تيار الاستغلال الاقتصادي وربما الجنسي في البيوت والحقول والمعامل و الورشات.. وكم من طفل تمدرس أو لم يتمدرس، عمل أو لم يعمل، لا يجد حرجا في أن يعبر عن جهله الديني وضعفه الانتمائي وضحله التربوي والثقافي بسب الدين ولعن الوالدين، وتخريب الميادين العامة بالآلاف وبالملايين.
عكس الطفولة في عهد الرسول (ص)، وكل السيرة تتحدث عن سلامتها من عقد طفولة اليوم، ومنهم من برز في الحفظ (ابن مسعود 14 سنة) والدعوة (مصعب بن عمير 24) والأمانة (سعد بن أبي وقاص 17) والسفارة (جعفر بن أبي طالب 18)، وحسن الإيواء (الأرقم بن أبي الأرقم 12)، وبرز في حذق اللغات (زيد بن ثابت 17) وقيادة الجهاد (أسامة بن زيد 18)، والمفدون بأرواحهم للرسول صلى الله عليه وسلم(علي بن أبي طالب 10)، والمراقبون لله تعالى المستحضرون لخشيته(بنت بائعة اللبن)، والجريؤون في التعبير عن رأيهم بطلاقة وإفحام دون تطاول وقلة أدب(طفل عمر واللعب في الطريق)..وبرز.. وبرز، وكل هذا من مدرسة الرسول(ص) التي تشبع خريجوها من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم بالهدي النبوي والصدق مع الله. فلماذا لا نفقهها على حقيقتها ونجربها بلسما لما طوفنا من أمر التربية والتنشئة ولا زال في واقعنا لا يستقيم؟.
ولاشك أن خصائص تربوية متميزة من الهدي النبوي كانت وراء حماية الطفولة وتكوينها، فمنحتها سلامة نشأتها، وتكامل جوانبها، ونضج شخصيتها، وإيجابية منطقها، وتأثيرها في محيطها الاجتماعي، نذكر منها بعض المعالم الأساسية بمناسبة المولد النبوي الشريف:
1- حسن اختيار عناصر الولادة: وجعلها ترتكز على عنصر أساسي وهو الدين والقيم، قال (ص) في الزواج: (تنكح المرأة لأربع.. اظفر بذات الدين ثربت يداك، وأضاف: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه..).
2- حفظ بيئة الاحتضان وترسيخ هويتها: ومعالمها وقوانينها، هذه البيئة التي هي الأسرة وقد أكد على كونها أسرة شرعية لا رضائية ولا مثلية..، وغير ذلك مما يكون مجمل رهطه اليوم من ضحايا الوضعيات الصعبة.
3- الوصاية بحسن التربية: وجعلها مسؤولية الآباء قبل غيرهم من المؤسسات والفاعلين والمتدخلين، فقال (ص): “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وقال أيضا: “إن الله سائل كل راع ما استرعاه حفظ أم ضيع”.
4- التربية السليمة والمتكاملة: بأبعادها اللازمة ومنها:
1- البعد التعليمي:” مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع”رواه أحمد وأبو داوود.
2- البعد العقائدي: ” يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سالت فسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة.. “رواه الترمذي.
3- البعد الأخلاقي والقيمي: ” يا غلام، سمِّ اللهَ، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك”متفق عليه، وفي الحديث:”ما نحل والد ولده شيئا أفضل من حسن الخلق”رواه الترميذي.
4- البعد الاندماجي في المجتمع: “المؤمن سهل لين هين إلف مألوف ولا خير في من لا يألف ولا يألف”.
5- البعد الحقوقي: ففي الحديث:”إن لولدك عليك حقا”، أو كما حدث مع الطفل الذي أصر على حقه في الشرب قبل الصحابة..، فأقره (ص) على حقه ذلك وأولويته تلك لكونه على يمينه، فسار في ذلك المثل: “ابدأ باليمين ولو كان عمر على الشمال”. ومن الأبعاد الحقوقية في تربية الطفل أيضا: بعد الانتماء.. حسن التسمية.. تحمل المسؤولية.. التربية لزمان غير زمان الآباء.. بعد الملاطفة واللعب والترفيه.. بعد القدوة والرفقة الحسنة…إلى غير ذلك.
فأين العدل في طفولة اليوم تحرم قرويتها مما تتمتع به حضريتها، لا لشيء إلا لأنها ليست من فئتها وفي غير مجالها؟ أين البيئة الحاضنة الآمنة وكثير من التشريعات وبعض اللوبيات أصبحوا لا يشجعون غير نمط الأسرة الرضائية المدنية غير الشرعية؟ أين الانتماء لبيت جعله الأبناء مجرد فندق للأكل والنوم والاستراحة.. لا تابع ولا متبوع؟ وأين المسؤولية عندما تعتمد البنت على أمها في كل شيء وحتى بعد زواجها واستقرارها في بيت زوجها ومع أبنائها، وتضع كل هواتف البيت في خدمة تواصلية استنجادية لا تنقطع مع أمها، ما أفعل في كذا وكذا؟ أو تبعية الابن لأبيه في أبسط مصاريفه (الحلاق والحمام والحافلة..) حتى بعد تخرجه الجامعي وربما توظيفه توظيفا كيفما كان؟ أين التربية لزمان غير زمان الآباء، عندما يصر الآباء أن يكون أبناؤهم نسخا طبق الأصل منهم؟ ليس في العبادات وحدها، بل حتى في العادات أيضا، رغم أن لكل زمان عادات قومه؟ أين الملاطفة واللعب في بيوت “حامضة” بسبب أو بدونه، واللعب والترفيه مفتاح كل ود وتواصل إيجابي بين الكبار والصغار؟.
أخشى أن يصدق على كثير منا أفرادا ومؤسسات، أسرا ومدارس وجمعيات، ونحن لا تعجبنا كثير من أفكار أبنائنا ولا تصرفاتهم، أخشى أن يصدق علينا قول عمر رضي الله عنه لمن جاءه يشكو إليه عقوق ابنه، فجيء به وسألهما واستمع إلى ما بينهما ثم رد على الرجل الشاكي بعد هول ما سمعه، من أن أباه لم يحسن اختيار أمه، ولم يحسن اختيار اسمه، ولم يعلمه شيئا من القرآن..،: “لقد عققته قبل أن يعقك”؟
إن تربية اليوم هي حصاد الغد، وكما يقول المربون: “من يزرع التسلط والانقياد حصد الرفض والعناد، ومن يزرع الحقد والكراهية حصد العدوان والتدمير، ومن يزرع السخرية والتعيير حصد عقدة الاضطراب والتقصير، ومن يزرع.. ومن يزرع.. يحصد.. ويحصد. وبالمقابل من يزرع التسامح والتعايش حصد الصبر وتقبل الآخرين، ومن يزرع التقدير والتشجيع حصد الثقة بالنفس والمبادرة والإبداع، ومن يزرع العدل والإنصاف حصد الوفاء بالحقوق والواجبات، ومن يزرع الرضا والقبول حصد الثقة والتوكل، ومن يزرع الصداقة حصد المحبة، ورأس الأمر كله في مشاعر المحبة والحنان بين المربي والمربى، فازرع ما شئت فكما يكون الزرع يكون الحصاد.
إن التربية خاصة الأسرية منها أو حتى المؤسساتية، الأسرية منها والمدرسية أو حتى الجمعوية، لابد لها من لمسة إنسانية كما يقول الدكتور “محمد بدري” في كتابه القيم “لمحات في فن التعامل مع الأبناء”، لمسات ضرورية حتى لا تكون التربية سوطا يلهب الظهور لكنه لا يزكي النفوس ويرقق القلوب، لمسات تربوية عميقة لخصها في 10 عناصر نذكر عناوينها ولكم البحث عن تفاصيلها في الكتاب، يقول الدكتور:”من تريد تربيته، فلابد: “استمع إليه – احترم مشاعره – حرك رغبته – قدر جهوده – مده بالأخبار- دربه – أرشده – تفهم تفرده – أتصل به – أكرمه…،إلى أن يقول ولابد لكل هذا من جو تربوي مفعم ب: الأمن والأمان – الحرية والمشاركة – مراعاة الفروق الفردية – رسالة ورؤية تربوية واضحة – المرونة – الاحترام – الرعاية والتشجيع – المتعة والإثارة” ؟. والله الموفق .