فرنسة التعليم.. جولة أخرى من التيه – محمد بن جلول
تمهيد:
أن يقدم المغرب على خطوة تشريعية بمستوى قانون – إطار يهم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي فهذا إنجاز عظيم وغير مسبوق في تاريخ المغرب من شأنه أن يقطع مع كل السياسات والمبادرات الاصلاحية التي همت التعليم ببلادنا منذ الاستقلال والتي كانت تفتقد الى مقومات أساسية تتعلق بالرؤية والحكامة والتعبئة الشاملة والمرجعية القانونية الملزمة…
ورغم تأخر هذا القانون فإنه أتى أخيرا بعد آخر تجربة باءت بالفشل عرف التعليم خلالها انتكاسات لم يعرفها من قبل أبانت عن اختلالات عميقة في تدبير عمليات الاصلاح في القطاع حتى أصبح المغاربة وقبلهم العاملون في القطاع قلقون جدا من الوضع التعليمي ببلادنا، وكتب الكثيرون عن فشل إصلاح التعليم وبعضهم عن موت المدرسة إثر فشل عشرية الاصلاح والمخطط ألاستعجالي الذي أعقبها وبالتالي بات الجميع ينام ويستيقظ على إيقاع الازمة وظلالها المخيفة ممنيا نفسه بإصلاح قادم؛ وبدأ التفكير في سبل الخروج من الأزمة التي عمرت طويلا، وانطلقت عمليات التشخيص والتقييم والتشاور وتنظيم الندوات وإنجاز الدراسات وإعداد التقارير كل ذلك في إطار مرحلة جديدة من تاريخ المغرب بعد دستور 2011 والمؤسسات الدستورية التي أحدثت بموجبه، وعلى رأسها المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الذي يهمنا في هذه المقالة وذلك في إطار مأسسة الاهتمام بالتعليم وقضاياه.
وبعد سلسلة من العمليات التقييمية أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 وعرضها رئيسه بين يدي جلالة الملك يوم 20 ماي 2015 . وفي نفس السنة دعا جلالة الملك في خطاب العرش الى صياغة الاصلاح التربوي في إطار تعاقدي وطني ملزم من خلال اعتماد قانون-إطار؛ وفي سنة 2016 شكل رئيس الحكومة لجنة تقنية مؤقتة تتولى إعداد صيغة أولية لمشروع القانون الاطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. وهكذا اتجه المغرب لأول مرة في تاريخه الى إصلاح شامل للتعليم في إطار مغاير تماما للتجارب السابقة وقدم مشروع قانون-إطار حمل رقم 51.17.
غير أن المشروع على أهميته كما أسلفنا جاء ببنود شوهت معالمه وجعلته عرضة لانتقاد واسع ويتعلق الامر باعتماد خيار الفرنسة من جديد في الوقت الذي كان المغاربة يحلمون بنموذج تعليمي مغربي تقوم دعائمه على أركان هويتهم الجامعة انسجاما مع الدستور وتطبيقا للفصل الخامس منه. وعرفت الساحة الوطنية نقاشا طويلا تصدى كل المهتمين، واحتد الجدل بخصوص المادتين 2 و 31 من القانون الإطار وما يتعلق بهما من تفاصيل؛ وانتهى مسار هذا القانون بالمصادقة عليه بالأغلبية داخل البرلمان مكرسا بذلك جولة أخرى من جولات التيه فيما يتعلق بإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي عبر فرنستها وتهميش اللغتين الرسميتين للدولة في هذه المنظومة.
- جدل الفرنسة في المغرب:
جدل الفرنسة الذي صاحب القانون الإطار 51.17 جديد قديم، جديد لان سبب نزوله اليوم هو إرادة العودة الى الفرنسة بعد تعريب غير مكتمل وبأساليب ملتوية تعاكس تطلعات المغاربة الى مستقبل يعلي من شأن مقومات النهوض الحضاري لبلدهم والانخراط الواعي في استعادة الدور الحضاري للأمة المغربية من خلال الانفتاح المتبصر على الكسب الانساني العام في كل المجالات عبر الترجمة وتعلم اللغات الحية الاكثر تداولا في العام حسب نص الدستور؛ وقديم لأنه مرتبط بالوجود الفرنسي بالمغرب منذ عهد الحماية حيث اتخذ أشكالا متعددة سواء خلال فترة الحماية وما بعدها، أو خلال فترة الاستقلال وإلى اليوم، إذ أن المغرب في فترة ما قبل الحماية كان ينهج سياسة الانفتاح اللغوي في إطار الاصلاحات الحديثة التي تبناها دون أن يكون مضطرا لإحلال لغة أجنبية مكان لغته الرسمية، اللغة العربية، في تدريس العلوم، سواء من خلال المدارس الوطنية، أو البعثات إلى دول أوربا كفرنسا وانكلترا وألمانيا وإيطاليا؛ وذلك بالرغم من حالة الضعف التي كان يعانيها والأطماع التي كان يواجهها؛ ويذكر محمد المنوني في كتابه مظاهر يقظة المغرب الحديث الجزء الاول كيف نشطت حركة الترجمة وتراكمت الخبرات الوطنية في مختلف مجالات العلوم خلال القرن التاسع عشر لتشمل الفلك والرياضيات والهندسة والكيمياء والطبيعيات والاقتصاد والإدارة والمجال العسكري والصناعي؛ غير أن التوسع الامبريالي وأطماع الدول الاستعمارية لم تمهل التجربة الرائدة وواجهتها بكل أدوات الاضعاف في إطار السياسية الاستعمارية. وتجدر الاشارة الى أن التنافس القوي حول المغرب منذ احتلال الجزائر وحتى عام 1904 لم يكن ينطلق من نفس الرؤية والهدف، وفي هذا ذكر المنوني (ص 28) بأن اهتمام انكلترا بالمغرب كان اقتصاديا وحربيا يهدف الى منع اية دولة من بسط نفوذها على الساحل الشمالي للمغرب حماية لحصن جبل طارق، بينما كان اهتمام اسبانيا يعود الى الصلة التاريخية القديمة التي كانت تربطها به؛ أما اهتمام ألمانيا فكان تجاريا بحتا، وأما اهتمام فرنسا فكان استعماريا محضا.
ومن هنا بدأت استراتيجية الفرنسة في أقسى صورها، ومن ثم أصبحت اللغة الفرنسية تفرض علينا بالطرق الخشنة والناعمة ؛ وطبعا ليس المجال هنا لبسط ما قام به المستعمر في هذا الاتجاه ورد فعل المغاربة تجاه ذلك من الحماية الى الاحتلال ومن الاحتلال الى الاستقلال ومن الاستقلال الي يومنا هذا. وإنما المراد هو بيان وجود إرادة الفرنسة منذ زمن بعيد، بأشكال مختلفة، تغيب وتبرز لكنها موجودة مند قرن وعقد من الزمن. ودعنا نعلن عن حسن النية ونقرر بأن الاستقلال يجُب ما قبله، وأن علاقتنا بالفرنسية بعد الاستقلال يجب أن ننظر اليها بطريقة مختلفة وليس من المعقول أن ترافقنا عقدة الاستعمار طيلة هذه المدة وأن فتيل التوتر يجب أن ينزع وبالتالي نعفي أنفسنا من الانخراط في جدل هوياتي يُفترض أن بواعثه غير موجودة اليوم إلا في ثنايا الحجاب الذي يفرضه المنظور الهوياتي للنقاش في السياسة اللغوية حسب زعم خصوم التعريب ؛ ولنتابع كيف تعامل المغرب مع الوضع اللغوي منذ الاستقلال ولننظر هل تقنعنا دعوات دعاة الفرنسة الذي ينتشون اليوم بانتصارهم على الشعب على الشعب المغربي بتمرير بنود فرنسة التعليم بالأغلبية في برلمان التوافقات الزائفة.
- التعريب المفترى عليه:
مع فجر الاستقلال شكل الراحل الملك محمد الخامس رحمه الله اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي أقرت ما عرف تاريخيا بالمبادئ الاربعة التي مثلت أسس السياسية التعليمية لمغرب ما بعد الاستقلال وهي التعميم والتعريب والتوحيد ومغربة الأطر وباستثناء التعميم فالمبادئ الثلاثة الاخرى كلها ضد الفرنسة بناء على مطالب الحركة الوطنية للمطالبة بالاستقلال، فالتعريب يقصد به التعليم باللغة العربية والتوحيد يقصد به توحيده في مدرسة وطنية واحدة عوض التعدد الذي كرسه الاستعمار، ومغربة الأطر يقصد به تعويض الموظفين الأجانب (الفرنسيين) بموظفين مغاربة.
ويهمنا في هذا المقال مبدأ التعريب باعتباره يقابل الفرنسة في الجدل القائم حول التعليم. وقبل أن نستعرض بعض المحطات ننقل هنا ما قاله المرحوم محمد عابد الجابري في مقال نشر سنة 1998 عن تلك المبادئ وقوة حضورها في الفكر الوطني المغربي حيث أكد بأن الذي لا يؤمن بها، أو لا يراها تخدم أفق تفكيره، لا يملك إلا أن ينادي بها في الظاهر ويعمل في “الباطن” في اتجاه آخر. وكم من المسؤولين عن التعليم في بلادنا سلكوا هذا المسلك!؛ وهو ما ظهر بالفعل في عمليات الالتفاف على مبدأ التعريب منذ إعلان اللجنة الملكية عن المبادئ الاربعة سنة 1957 بحيث – وحسب كرونولوجيا إصلاح التعليم منذ الاستقلال – أنه بعد سنة واحدة من اعتماد التعريب تم التراجع عن تعريب المواد العلمية ابتداء من التحضيري، لتنطلق بعد بعد ذلك سلسلة من المخططات الثلاثية والخماسية ومشاريع الاصلاح كلها تأرجحت بين التعريب الجزئي أحيانا عن طريق تعريب مواد والإبقاء على مواد في نفس السلك وأحيانا عن طريق تعريب سلك وفرنسة سلك آخر وفي أحسن الاحوال كان الاحتفاظ بالازدواجية اللغوية هو القاعدة.
وهكذا الى حدود سنة 1990 حيث توقف التعريب عند الباكالوريا مع فرنسة بعض المضامين و الابقاء على التعليم العالي مُفرنسا؛ وختم المسار بميثاق التربية والتكوين سنة 1999 الذي دعا الى تعدد اللغات في التعليم لكن واقع الحال لم يشهد تعدد اللغات وإنما عزز مكانة الفرنسية بحيث أصبحت عبارة “تعدد اللغات” تعني مكان شاغر لفائدة الفرنسية ، كما أن واقع الحال عكس تراجعا مستمرا في مكانة اللغة العربية رغم تأكيد كل المناظرات على اعتماد المبادئ الاربعة ومنها التعريب ليقال دائما بأن التعريب سياسة فاشلة وأن الحل في عودة الفرنسية “لغة العلوم”. وإذن من خلال هذا التخبط يتضح بأن نفوذ الفرنسية في المغرب لا يعكس أهميتها في مجال العلوم وإنما يعكس قوة وشراسة التيار الذي يدعمها حرصا على مصالحه؛ وحكاية اللغات الأجنبية في القانون الاطار مجرد خدعة ودليل ذلك هو هذا التخبط الذي عاشه المغرب طوال عقود ويتكرر اليوم بطريقة أخرى ويكفي تصريح وزير التعليم اليوم بأن اللغة الانجليزية مكلفة لنكتشف خدعة تعدد اللغات مرة أخرى.
- اللغة الفرنسية والفرنسة:
لا أعتقد بأن أحدا من المغاربة يقف ضد الفرنسية كلغة، ولم نسمع بمن يرفضها أو يحاربها حتى نقول بأن موقف الذين دافعوا ويدافعون عن مكانة اللغة العربية ويرفضون الفرنسة مرتبط بإيديولوجيا لا علاقة لا بإصلاح التعليم ومعرقلة له، بل موقف هؤلاء موثق إعلاميا وكلهم يرحبون بالفرنسية كلغة أولى في المغرب لكنهم ضد الفرنسة؛ ومنطلق هذا الموقف هو الفصل بين تدريس اللغات ولغات التدريس؛ فتدريس اللغات هو المطلوب ضرورة وليس اختيارا، وهو ما يؤدي في النهاية الى قراءة الآخر كيفما كان ونقل ما عنده من معارف نافعة الى المغاربة عن طريق الترجمة؛ فدارس الفرنسية ينقل الى المغاربة المعارف الفرنسية ودارس الانجليزية ينقل معارف المتكلمين بالانجليزية وهكذا الشأن مع كل اللغات الحية؛ أما لغات التدريس فهي بالضرورة اللغات الوطنية؛ وفي الحالة التي وقع فيها المغرب وهي نادرة نظرا لتهور بعض ساسته وأمية أغلبهم ولدهاء ونفوذ التيار الفرنكفوني فإن أبناء المغرب سيدرسون أغلب المواد باللغة الفرنسية، وإذا احتجنا إلى معارف ليست موجودة وغير مترجمة عند الفرنسيين فسيلزمنا إما أن ننتظر حتى تترجم فرنسا عن الانجليزية وإما نترجم نحن إلى الفرنسية ( أين هي أذنك، هاهي).
وللأسف لم يكن ساستنا في مستوى اللحظة التاريخية ولا في مستوى الوعي بالمنزلقات القانونية التي سيكون لها ما بعدها على مستوى الثقة في مشاريع الإصلاح والعملية السياسية برمتها؛ فمن جهة ينص الدستور في الفصل الخامس على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية للدولة؛ والعبارة واضحة إلا إذا كانت كلمة ” تظل” تحتمل أن تكون كذلك إلى حين؛ ومقتض ذلك أن تكون اللغة العربية لغة التعليم والحاصل أن ذلك لم يحصل في القانون الإطار؛ وفي نفس الفصل ينص أيضا على أن الدولة تعمل على حمايتها، وتطويرها وتنمية استعمالها، وينص بعد ذلك على الطابع الرسمي للأمازيغة وصيانة الحسانية. فكيف سيتم حماية اللغة العربية وتطويرها وتنمية استعمالها وقد أخرجت من الباب وحلت الفرنسية مكانها وقد دخلت من النافذة؛ كما أن الدستور يتحدث عن أن الدولة تسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافة الوطنية وعلى تعلم وإتقان اللغات الاجنبية الأكثر تداولا في العالم؛ فأين هو الانسجام في السياسة اللغوية في ما جرى وأين هو سهر الدولة؟؛
كما أن القانون الاطار خان الرؤية الاستراتيجية مخالفة صريحة فيما يتعلق بالتناوب اللغوي حيث تنص الرؤية على أن اللغة الفرنسية لغة الزامية بوصفها لغة مُدَرسة في كل مستويات التعليم ولغة تدريس في بعض المضامين أو المجزوءات ابتداء من الثانوي الإعدادي؛ بينما ينص القانون الاطار على إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد ولا سيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو لغات أجنبية، وطبعا سيبدأ العمل بذلك في سن مبكرة. وهذا يفتح الباب على مصراعيه لتتغول الفرنسية وتتراجع العربية تدريجيا؛ فكيف أضيفت بقدرة قادر “بعض المواد” التي لم ترد في الرؤية الاستراتيجية؟ وإذن لا بد أن يكون الامر واضحا بالنسبة للمغاربة عندما نتحدث عن اللغة الفرنسية من جهة وعن الفرنسة من جهة أخرى.
- الفرنسة نفوذ يتجاوز الحديث عن اللغة:
لاحظنا كيف كان التعامل مع التعريب في التعليم من خلال التأكيد عليه ضمن المبادئ الاربعة من جهة في كل المحطات الاصلاحية ومن خلال العمل بنقيضه من جهة أخرى ضدا على قرارات لجن إصلاح التعليم وبنود المخططات وتوصيات المناظرات من جهة أخرى؛ وطبعا في الفترة التي أعقبت الاستقلال كانت المبررات تلصق في قلة الاطر المغربية وقلة كفاءتها إن وجدت ثم بعد ذلك بدأ الحديث عدم قدرة اللغة العربية على مسايرة التقدم العلمي وعدم قدرتها على مواكبة ثورة المصطلحات والتقنيات خاصة في العلوم الحديثة. وهذا إدعاء فنده ويفنده المتخصصون وهو أمر يراد به تغليط الرأي العام لا أقل ولا أكثر؛
والعجب في هذا الاطار هو أن الفرنسية لها نفوذ كبير في المغرب ونفوذها هذا لا تستمده من القوانين، تماما كما هو نفوذ المنتفعين والمتنفذين في إطار منظومات الفساد والاستبداد، إذ من المفروض أن القانون وضع ليكون حاميا فإذا به وبقوته لا تساوي شيئا. وإذا أضفنا الى سطوة الفرنسية في التعليم سطوتها في الادارة والاقتصاد والإعلام ضدا على أعلى قانون في البلاد فنكون قد تجاوزنا العجب وبدأنا نسلم بأن الفرنسية مسنودة بأدوات الاكراه خارج القانون وبشكل ناعم. وحضور الفرنسية القوي في المغرب يتفوق دائما على حضور العربية في الادارات العمومية والمقاولات الاقتصادية والإعلامية والمستشفيات العامة والخاصة وغيرها؛ وفي كل هذه المرافق نجد الفرنسية هي لغة التواصل الاساسية وإذا وجدت العربية هناك في شكل اللسان الدارج فللفرنسية من حضورها نصف المساحة أو أكثر وأحيانا تقتسم معها الجمل والعبارات؛ وقد وقفت شخصيا على مراسلات إدارية رسمية حديثة في الادارة العمومية موجهة لمغاربة كلها بالفرنسية، هذا دون الحديث عن الاوساط الأخرى التي ذكرناها آنفا، فهل يستطيع أحد أن يشرح لنا سبب وجود الفرنسية في الإدارات العمومية مثلا؟ فهل العربية عاجزة عن لغة الادارة أيضا؟
وليس ذلك فقط بل إن الفرنسية تقتسم مع العربية مناصفة جل الوثائق وحين تعبأ، تعبأ في الغالب باللغة الفرنسية؛ ومع هذا الوضع مضافا الى قرار التناوب اللغوي الذي جاء به القانون الإطار والذي يخالف التعريف المعتمد في الرؤية الاستراتيجية فإننا سنكون أمام خيار وحيد وهو الخيار المستحيل بتعبير الدكتور محمد عابد الجابري والمتمثل في فرنسة الشعب بدلا من تعريب التعليم، حين قال: “نحن إذن أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن نعرب التعليم وإما أن نفرنس الشعب! لنترك العواطف وخطاب الهوية والوطنية جانبا. ولنجب من الناحية العملية الإجرائية وحدها”! مضيفا ” لا بد من استحضار هذا الجانب عند الحديث عن التعريب، فهو الجانب الذي يصب فيه الهدف من التعليم. وإلا فلمن العلم ولمن الطب ولمن الهندسة ولمن علوم الفلاحة ولمن التقنيات والإعلاميات؟ بمعنى أن توصيل المعرفة إذا لم يأخذ المحيط بعين الاعتبار ومخاطبته بلغته فإن المعرفة التي سيأخذها ليس هو المقصود بها.
- مغالطات:
في الجدل حول المادتين 2 و31 من القانون الإطار وهما موضوع خلاف كبير بين من يرى فيهما اعتداء شنيعا وصريحا على اللغة العربية وتجاوزا فجا لدستور المملكة وبين من يرى فيهما انفتاحا على العصر وبابا للعلوم والحضارة الإنسانية الحديثة، بين هذا وذلك يعج النقاش بكثير من المغالطات، فعلى سبيل المثال يحلو للمُفرنٍسين الذين ربحوا الرهان في اعتماد الفرنسية لغة للتدريس أن ينعتوا المدافعين عن العربية بأن نقاشهم يصدر عن رؤية هوياتية عاطفية، وهذا النعت لا يخرج عن كونه سفسطة تستخدم لتسفيه المخالف والتقليل من قيمة أفكاره فيظهر متهافتا ضعيف الحجة لا رؤية له في النازلة.
وأسلوب المغالطة يصبح رائجا في السجالات التي تظهر فيها صلابة المواقف تأسيسا وبناء. وإلا فما المقصود بالخطاب الهوياتي وأين العيب حين نقول بأن اللغة العربية تمثل هويتنا كمغاربة وجب حمايتها وتنميتها وتطويرها ولا يعقل إحلال الفرنسية أو أية لغة أخرى مكانها؟ ذلك أن الأرض واللغة هما أساس الهوية لأي شعب بهما يعرف وبهما يميز وبهما يسمى، أي عندما نقول هذا شعب فرنسي فنقصد بذلك الشعب الذي ينتمي إلى أرض تمثلها دولة تسمى فرنسا ويتكلم لغة اسمها الفرنسية؛ فأين النزوع الهوياتي هنا؟ لو ربطنا اللغة بالدين أو العرق مثلا لقلنا بأنه قد يكون هناك بعض التعصب في هذه الامور وقد لا يتفق معه الكثير من الناس، أما أن نربط اللغة بالأرض فلا نعرف في المغرب غير لغتينا الرسميتين العربية والأمازيغية فلهما الأولوية والريادة بنص الدستور؛ وحينما نتحدث عن الهوية في هذا الاطار فلا نلغي الانفتاح على اللغات الحية بما فيها الفرنسية والإقبال على تعلمها، وتبلغ المغالطة مداها وصفاقتها حين تعاكس دستور البلاد من أجل مكاسب سياسية يربحها طرف ما على حساب زمن الإصلاح الذي يضيع من الوطن.
كما أن بعض ساسة المغرب ظلوا يقاربون موضوع التدريس بالفرنسية بمقاربات اختزالية فضلوا وأضلوا؛ وبعضهم أصبحوا نجوما من خلال تصريحاتهم السطحية؛ فالاختزال ظهر من خلال دُفعات تتعلق بحاجة سوق الشغل ودمج المدرسة في محيطها الاقتصادي وتقليص المسافة التي تفصلنا عن التقدم في مجال العلوم؛ وكلها دفعات لا حجية لها بالنظر الى مقتضيات السيادة الوطنية وتجارب الدول، وحتى بالنظر إلى مفاهيم ك “سوق الشغل” و”المحيط” و”متطلبات المعرفة” حين نفككها يظهر تهافت طرحهم واختزاليته، والتسطيح يظهر من خلال تصريحات تقول بأن الناس تقبل على الفرنسية وتدرس أبناءها بالفرنسية؛ والأمر لا يعدوا أن يكون اضطرارا الفرنسة هي سببه وليس اقتناعهم بذلك.
خاتمة:
إن معاناة اللغة العربية لا تقتصر فقط في مزاحمة الفرنسية لها في مختلف مناحي الحياة الى درجة تمكنها أخيرا من تسجيل هدف كبير على المستوى القانوني، ولكنها تعاني الاستهداف والإهمال؛ ويكفي مؤشر واحد ليتبين لنا حجم الاستهداف والإهمال ويتعلق الأمر بتفعيل أكاديمية محمد السادس للغة العربية؛ المؤسسة تحمل اسم ملك البلاد جلالة الملك محمد السادس، وقد تأسست بموجب مرسوم سنة 2001 بهدف النهوض – حسب ما جاء على لسان الناطق الرسمي باسم القصر الملكي حسن أوريد آنذاك – باللغة العربية وتعزيز دورها في نواحي الثقافة والتربية والعلوم بالمملكة وتحديثها وتبسيطها بما يجعلها في متناول كل الشرائح الاجتماعية وكل مجالات الحياة الوطنية بالإضافة إلى تأهيلها لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي ؛ فهل ننتظر عمرا آخر يعادل عمر مغرب الاستقلال حتى نأهل اللغة العربية لتكون لغة العلم والتكنولوجيا كغيرها من اللغات الحية؟ إنه التيه الذي فرض على المغرب أن يدخل فيه ولم يعد الأمل كبيرا بعد ما رأينا المواقف المخجلة والأخطاء الجسيمة لأحزاب يفترض أنها حامية لاختيارات المغاربة كحزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال.