فرنسا بعد 7 أكتوبر.. قمع وتضييق وطرد للمتضامنين مع فلسطين
ضيّقت فرنسا الخناق على الأصوات المدافعة عن الفلسطينيين منذ بدء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، خاصة مع تعاظم المد اليميني والخطاب الإسلاموفوبي بشكل واضح في الشارع والمؤسسات الإعلامية.
وتم توجيه اتهامات بالإرهاب والتخلّف والبربرية للعرب والفلسطينيين بشكل خاص والمسلمين، تُرجم باستدعاءات لصحافيين وناشطين فرنسيين عبروا عن تضامنهم مع الفلسطينيين، ومع المقاومة في قطاع غزة، في وجه آلة القتل “الإسرائيلية”.
واعتقلت الشرطة الفرنسية الناشطة الفلسطينية مريم أبو دقة في باريس شهر نونبر 2023، بعد أن وصلت إلى فرنسا شهر شتنبر وعقدت مؤتمرين رغم التضييق عليها بعد حملات لحظر نشاطها العام.
وتم توقيف الناشطة الفلسطينية العضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تصنفها إسرائيل والاتحاد الأوروبي “إرهابية”، بعدما أعطى مجلس الدولة الضوء الأخضر لترحيلها.
وكانت أبو دقة (72 عاما) حصلت على تأشيرة لمدة 50 يوما في القدس في بداية شهر غشت للذهاب إلى فرنسا حيث كان من المقرر أن تشارك في مؤتمرات مختلفة حول النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني.
وتُعد هذه واحدة من حالات القمع والتوقيف والتضييق، التي مارستها السلطات الفرنسية على المتضامنين مع القضية الفلسطينية منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، حيث تعرّض مناصرو القضية الفلسطينية في أوروبا للحظر في بعض الدول الأوربية ومنها فرنسا، مع تواصل حراكهم الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني والمناهض لحرب الإبادة التي يتعرض لها في غزة.
واعتقلت السلطات الفرنسية الشاب يانيس عرب – من أصول جزائرية – طالب الدكتوراه في التاريخ والمحاضر والمؤلف لعدة كتب عن فلسطين، بعد أن طلب منه رجال الأمن المسلحين الاستلقاء على الأرض وقيدوه وأخاه (16 عاما) وابن عمه وسط دهشة والدته التي تصور ما يجري، قائلة “لأن ابني يدافع عن القضية الفلسطينية، أصبح اليوم إرهابيا”.
وتوجهت الفرقة الخاصة إلى غرفته لمصادرة هاتفه وجهاز الكمبيوتر الخاص به، كما التقطت صورا لعدة كتب، من بينها الكتب الأكاديمية وكتاب القرآن الكريم.
وأوضح يانيس أن المدعي العام في غرونوبل عرض إجراء تحقيق بشأن التغاضي عن الإرهاب، وطرح أسئلة متعلقة بمنشورات له على فيسبوك كتبها في السابع من أكتوبر 2023، وخاصة حول ما كان يفكر فيه آنذاك، وأكد يانيس أن أعمال المقاومة العنيفة جاءت في سياق استعماري تعيشه فلسطين و”أنا لا أستطيع إدانة العنف الفلسطيني دون عكس ترتيب الأسباب والنتائج”.
ويضاف هذا الملف إلى ملفات أخرى لأشخاص عوملوا بالطريقة نفسها في سياق قمع متزايد للأصوات المدافعة عن القضية الفلسطينية في فرنسا.
وقد تعرضت شبكة “صامدون” الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين في فرنسا، بدورها لحملة قمع كبيرة في إطار ما تتعرض له حركة مناصرة فلسطين بشكل عام في أوروبا، وذلك كرد على تنامي الحراك الشعبي والمؤسساتي المناصر للقضية الفلسطينية، والاختراقات التي يحققها هذا الحراك حتى داخل النظم الرأسمالية نفسها التي أصبح داخلها تناقضات وأصبحت تأخذ مواقف مختلفة تجاه القضية الفلسطينية.
وجرى رسميا منع رابطة “فلسطين ستنتصر” في مدينة تولوز، التي تعد جزءا أساسيا من شبكة “صامدون”، ليس فقط لأهمية الشبكة ودورها، ولكن لاستهداف الموقف السياسي الذي تحمله، وهو “لنا الحق وواجبنا في دعم المقاومة الفلسطينية، والمقاومة بكل أشكالها حق لشعبنا الفلسطيني”.
كما تم استهداف الصحافية الناشطة سهام أسباغ، حيث استدعتها الشرطة الفرنسية بسبب منشور عبر حسابها على منصة إكس يوم السابع من أكتوبر 2023، جاء فيه أن “المسؤول الوحيد (عن عملية طوفان الأقصى): دولة “إسرائيل” الاستعمارية. الحل الوحيد: نهاية الاستعمار وتحرير فلسطين. المسار السياسي الوحيد: الحديث عن أسباب ما حصل، أي الاستعمار والعنف (الإسرائيلي)، إلى جانب إدانة الدول المتواطئة ودعم المقاومة الفلسطينية”.
وفي نفس اليوم تم استدعاء مرشحة حزب فرنسا الأبية لانتخابات البرلمان الأوروبي، الناشطة والمحامية الفرنسية ــ الفلسطينية ريما حسن إلى المديرية الوطنية للشرطة القضائية من أجل الاستماع إليها بشأن “وقائع تمجيد علني لعمل إرهابي” على شبكة الإنترنت بين 5 نونبر والأول من دجنبر 2023.
وحرصت ريما، بشكل متواصل على التأكيد أن عملية طوفان الأقصى كانت نتيجة لجرائم الاحتلال المتواصلة منذ 76 عاما، مطالبة الإعلام والرأي العام بالتعامل معها وفق سياق تاريخي كامل وليس كلحظة مفصولة عن التاريخ.
كما كررت في جولاتها الانتخابية وعبر منصات التواصل الاجتماعي استنكارها “للضغوط السياسية التي تهدف إلى المساس بحريتي في التعبير”. بينما عبّر حزب فرنسا الأبية عن دعمه لريما حسن في منشورات وبيانات جاء فيها أن “هذا الاستدعاء هو محاولة لترهيب وتجريم كل الأصوات التي ترتفع في وجه المجازر المستمرة في غزة”.
ونفس التضييق عاشته مزنة الشهابي خبيرة التنمية والاتصالات الفلسطينية ــ الفرنسية شهر نونبر 2023، بفصلها عن عملها في منظمة كير غير الحكومية (الفرع الأميركي للمنظمة)، وذلك بسبب منشوراتها عن فلسطين، وحرب الإبادة “الإسرائيلية” في قطاع غزة.
وفي شهر شتنبر 2024، عرضت السلطات الفرنسية الناشط المؤيد لفلسطين إلياس دي إمزالين على القاضي في 23 أكتوبر عقب استخدامه كلمة “انتفاضة” في مظاهرة بباريس.
وكان آخر حلقة من حلقات القمع الفرنسي لكل من تضامن مع فلسطين، إبلاغ المدعية العامة عن الصحافية الفرنسية من أصول مغربية، زينب الغزوي بشبهة الترويج للإرهاب، وذلك على خلفية موقفها المبدئي ضد إجرام الكيان الصهيوني ومناصرتها للشعب الفلسطيني.
وتم سحب “جائزة الجمهورية الفرنسية سيمون فايل” التي يمنحها الرئيس الفرنسي منها، والتي سبق وسلمت لها سنة 2019، لأنها قارنت بين الوضع في غزة والمحرقة اليهودية حينها، وقالت “منحت لي الجائزة باسم حرية التعبير ثم سحبت مني لما مارست حرية التعبير عن الوجع الكبير الذي أشعر به عندما أرى مدى نزع الإنسانية عن الفلسطينيين”.
وتحدثت زينب الغزوي في حوار لها مع قناة “الجزيرة“، عن تزايد العنصرية في فرنسا ضد العرب، متهمة الحكومة الفرنسية بالتواطؤ مع الكيان الصهيوني، مضيفة أن الواقع الحالي في فرنسا يعكس تناقضات كبيرة بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية، قائلة “حرية التعبير في فرنسا مجرد خدعة”.
وفي نفس الشهر، قدم ائتلاف يضم عددا من المحامين 100 شكوى أمام القضاء الفرنسي بحق الشرطة الفرنسية التي اتهم بعض عناصرها بتنفيذ اعتقالات تعسفية في حق متظاهرين خلال الاحتجاجات المناهضة لمشروع تعديل نظام التقاعد.
ووفق أعضاء هيئة الدفاع، فإن عددا من الأشخاص الذين قابلوهم أثناء حجزهم قد تم اعتقالهم بطريقة عشوائية وبالمصادفة، كما أن 75 في المئة من هذه الاعتقالات تم إغلاق ملفاتها لعدم وجود أدلة.
وسياسيا، أخذت الملاحقات والضغوط التي يتعرض لها اليسار الفرنسي شكلا أوسع، فقد رفضت حركة “فرنسا الأبية” إدانة المقاومة الفلسطينية، وهو ما عرضها لانتقادات واسعة وتحرش إعلامي، بلغ بأحد ضيوف برنامج حواري على قناة “CNews”، وهو المغني اليهودي أنريكو ماسياس، للدعوة إلى “التصفية الجسدية” لأعضاء الحزب.
بينما يواجه زعيم “الحزب الجديد المناهض للرأسمالية” الفرنسي، فيليب بوتو، ملاحقات قضائية بتهمة “معاداة السامية ودعم الإرهاب”، فيما طالب النائب الجمهوري ستيفان لو رودولييه، رئيسة الحكومة إليزابيث بورن، بحل كل من “الحزب الجديد المناهض للرأسمالية” وحركة “فرنسا الأبية” وحزب “Indigènes de la Republic”، لما اتهمهم به من “دعم للإرهاب ومعاداة السامية”.
وتحت عنوان “حملة القمع ضد الأصوات المؤيدة للفلسطينيين في فرنسا”، كشفت سميرة جرار في مقال لها، أنه بعد السابع من أكتوبر 2023 مباشرة، منعت السلطات الفرنسية المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وقمعت بِعنف المتظاهرين السلميين وألقت القبض على الكثيرين منهم.
وأوضحت الكاتبة أن حملة القمع الإداري الأوسع نطاقا أدت إلى إلغاء فعاليات أكاديمية حول فلسطين، مبررة ذلك بأسباب أمنية أو لأن الأحداث اعتُبرت سياسية بشكل صريح. كما تم أيضا إسكات العلماء خارج الجامعة. وكانت الحالة الأكثر شهرة هي الفيلسوفة الأمريكية جوديث باتلر Judith Butler، التي ألغى عمدة باريس محاضرتها عن معاداة السامية وفلسطين، والتي كان من المقرر أن تلقى في السادس من دجنب 2023.
وكشفت الكاتبة أن الحكومة بدأت تتدخل على نحو متزايد في شؤون الجامعة، ففي الثالث عشر من مارس 2024، قدم رئيس الوزراء غابرائيل أتال نفسه في معهد العلوم السياسية في باريس، وحث الجامعة على اتخاذ إجراءات تأديبية ضد الطلاب الذين نظموا فعالية تضامنية مع فلسطين في الحرم الجامعي.
وقد جاء هذا التدخل في أعقاب اتهامات بمعاداة السامية وجهها أعضاء إتحاد الطلاب اليهود في فرنسا. وخوفا من وصمها بمعاداة السامية، عززت العديد من الجامعات الرقابة على كل الأمور المتعلقة بفلسطين.
وأصبحت جامعة العلوم السياسية مركزا للمخيمات الطلابية في فرنسا، والتي امتدت بعد ذلك إلى جامعات أُخرى، بما في ذلك جامعة السوربون، والمدرسة العليا للتعليم، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الإجتماعية.
وواجهت إدارة الجامعات المخيمات الطلابية التضامنية في جامعات فرنسا، التي طالبت سلميا بِإنهاء التعاون الأكاديمي مع المؤسسات العسكرية والاستعمارية، بالقمع، وفي مناسبات متعددة استدعت الجامعات الشرطة لطرد طلابها، وأحيانا أدى إلى إلقاء القبض عليهم. ولم يستثني القمع البوليسي المظاهرات في المدارس الثانوية أيضا، حيث تم اعتقال العديد من الطلاب.
واعتبرت الكاتبة أن قمع حركة التضامن مع الفلسطينيين في فرنسا ليس بالأمر الجديد، فقد واجهت الحركات المؤيدة لفلسطين، من ضمنها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، محاولات متكررة لتجريمها على مر السنين.