فراغ لا يملأه غير دين الإسلام – محمد الهندي
تتوقع كثير من التقارير الصحية بان اجتياح فيروس كورونا لا زال في بداياته، وأن العالم ما بعد كورونا ليس كالعالم قبله، وهم يعنون بذلك المنظومات الصحية والسياسية والاقتصادية غالبا.
لكن الأهم من وجهة نظري أن العالم مقبل على خواء روحي – قيمي ليس له مثيل :
– بعد انهيار منظومة أفكار ومبادئ وقيم الشيوعية والاشتراكية والأنظمة السياسية القائمة عليها والراعية لها في الربع الأخير من القرن العشرين وتحول دولها إلى نادي الدول الرأسمالية مستوعبة أفكارها ومبادئها وثقافتها وغاياتها وسياساتها وأخلاقها ونظرتها للحياة والإنسان، بحيث أصبحنا لا نرى فرقا بين الدول العظمى اليوم سوى في الصراع على مناطق النفوذ والمصالح والذي يستهدف أساسا استنزاف ونهب الشرق الإسلامي وإجهاض أي نهضة حقيقية فيه، باعتباره العدو المعلن للحضارة الغربية والذي يهدد أفكارها وثقافتها وطريقة عيشها ونظرتها للحياة.
فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 قل أن تجد عدوانا أو مؤامرة على دولة خارج نطاق العالم الإسلامي، وقد يتخذ هذا العدوان أشكالا مختلفة ابتداء بالحرب المباشرة وليس انتهاء بإسناد ودعم الحكام والطغاة في مواجهة وقمع مطالب الشعوب بالحرية والعدالة والعيش الكريم.
وبدا للبعض وكأن الحضارة الرأسمالية سجلت انتصارا حاسما ووصلت إلى مرحلة نهاية التاريخ.
– فجأة وبدون سابق إنذار تسلل غشاء في غاية الرقة يحيط بكروموزوم غاية في الدقة ليحاكم هذا العالم المتكبر المتغطرس بكل أفكاره وعقائده وتنظيماته وسلطاته، ويظهره عاجزا ضعيفا مترددا مفلسا (كأعجاز نخل خاوية).
– في بريطانيا وعلى لسان رئيس وزرائها جونسون، يتحدثون بكل بجاحة عن (مناعة القطيع) هذه هي نظرية التوحش في أبشع صورها التي تمثل التضحية بالمواطنين المرضى والضعفاء للاحتفاظ بالمال.
– في أمريكا وتحت غطاء مواجهة الفيروس يرصدون مئات المليارات وذلك لإنقاذ “وول ستريت”، والخطوط الجوية، والمشاريع والشركات الرأسمالية الكبرى، وليس لإنقاذ أرواح الناس والطبقات الفقيرة الذين يتركون نهبا لنظرية (مناعة القطيع) بطبعتها الأمريكية حيث الأرباح أهم بكثير من أرواح البشر .
– أوروبا انكشفت على حقيقتها فالتضامن الأوروبي خرافة، غير مسموح لصربيا مثلا استيراد المعدات الطبية من الاتحاد الأوروبي بحجة أنه لا يوجد ما يكفي، واتهامات لدول أوروبية بقرصنة شحنات كمامات ومعقمات ومعدات طبية كانت في طريقها إلى تونس وإلى دول أوروبية أخرى. وأصوات مسؤولة في إيطاليا وأسبانيا تتهم الاتحاد الأوروبي بالتخلي عنها وأن الاتحاد الأوروبي انتهى .
– في “إسرائيل” التي هي امتداد لهذا الغرب تتكشف العنصرية بأبشع صورها، ففي الوقت الذي يعتمد فيه جهاز الصحة في “إسرائيل” على آلاف الأطباء والممرضين والصيادلة والعاملين العرب، ورغم أنه من المتعذر التفريق بين العرب واليهود في انتشار الفيروس سواء في الأراضي المحتلة عام 48 أو حتى في الضفة وغزة، إلا أن “إسرائيل” وبكل أحزابها الرئيسية تنظر نظرة عنصرية للعربي الفلسطيني وتمارس بحقه ممارسات غير إنسانية، بداية ترفض الاعتراف بممثلي العرب في الكنيست وتهمش دورهم وترفض تحسين مستوى معيشة وأمن وصحة الوسط العربي في الأراضي المحتلة عام 48 . وفي الضفة تلقي العمال العرب المحمومين على قارعة الطريق بدل علاجهم، وكذلك تستمر في حصار غزة، وفي السجون تهمل علاج المعتقلين وتسحب مواد التنظيف والمعقمات إمعانا في إذلالهم.
– على مستوى الأمم المتحدة فإن كل مناشدات الأمين العام لوقف الصراعات (التي يتحكم فيها الغرب وخاصة أمريكا وأدواتها في المنطقة) ذهبت أدراج الرياح، وكذلك المناشدات الدولية برفع العقوبات عن إيران فترة انتشار الوباء لاقت أذنا من طين وأخرى من عجين.
وكل مناشدات الأمم المتحدة لرصد ملياري دولار لمساعدة الدول الفقيرة خوفا من اجتياح الفيروس وقعت على آذان صماء، في الوقت الذي ترصد فيه ترليونات الدولارات لإنتاج أسلحة دمار شامل.
لقد سقطت أقنعة الرأسمالية الزائفة ودعاوى الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، ليظهر خلفها الغرب الرأسمالي المتوحش بمنظوماته الفكرية والتنظيمية وسياساته الاقتصادية والاجتماعية التي تقدس الربح وتعتمد العنف والصراع وسحق الضعفاء وسرقتهم واستنزافهم، وحتى القيم الغربية المبنية على تقديس الحرية الشخصية المطلقة دون اعتبار لمصلحة المجتمع أو حتى الأسرة أدت إلى انفلات الأفراد وعدم التزامهم بالإجراءات والتعليمات التي تحد من هذه الحريات لمواجهة الفيروس وبالتالي زيادة انتشاره.
سقطت الأقنعة لتتكشف حقيقة الرأسمالية كنظام متوحش في نظرته إلى الحياة والإنسان.
لم يبق أمام البشرية سوى دين الرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) يواسي جراحهم ويطبب روحهم، وهذا يرتب مسؤوليات جديدة على الأمة الإسلامية.
الأمة الإسلامية اليوم محطمة وفي معظمها غير جاهزة لتقديم البديل الحضاري – الأخلاقي للغرب، لكن هناك فرصة لبعض الدول الإسلامية أن تقدم نموذجا، فبالاضافة إلى أنها تمتلك إمكانات معقولة فقد توفر لبعضها ميزتان:
أولا حجم الإصابات بالفيروس فيها ليس كبيرا إلى الدرجة التي تشل مؤسسات الدولة وتؤدي إلى الانكفاء على الذات، وفي نفس الوقت كافيا ليقدم رسالة داخلية للشعب بضرورة أن يصبح أكثر التزاما وتقبلا لمبادئ الإسلام وتعاليمه.
وثانيا فإن تفشي الوباء لم يكن مفاجئا وصادما بما يتيح فترة زمنية لاستكمال الاستعداد والقدرة على تقديم المساعدة للآخرين والانفتاح على كل من يحتاج مساعدة بغض النظر عن الحسابات السياسية والاقتصادية.
الدول الإسلامية التي تلتقط هذه الفرصة وتتحمل المسؤولية وتقفز بشعوبها درجة نحو الالتزام بتعاليم الإسلام وتقدم المساعدة بدون أي حساسية أو حسابات للآخرين فإنها بعد انحسار وباء كورونا سوف تشكل قطبا مهما ونموذجا جديدا في الساحة الدولية.