فاستقم كما أمرت
مقام الاستقامة أعلى المقامات، يُرتَقَى به لأعلى الدرجات، كما يدل عليه هذا الأمرُ به للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، وفي قوله تعالى: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [الشورى: 15]، ولموسى وهارون عليهما السلام في قوله: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 89]، وقد مدَح الله أهلَ الاستقامة فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾، وطريقُ الاستقامة هو أقربُ طريق موصل إلى الجنة، كما أن الخطَّ المستقيم هو أقربُ خط يصل بين نقطتين؛ ولذلك يطلب المؤمنون معرفتَه والثباتَ عليه بقولهم في كل ركعة من ركعات الصلاة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، والصراط صراطانِ: صراطٌ في الدنيا، وصراط في الآخرة؛ فمن ثبَت على الصراط المستقيم في الدنيا، ثبَت على صراطِ الآخرة، ومن انحرَف عن الصراط المستقيم في الدنيا، انحرَف عن صراط الآخرة؛ فعلى العبد أن يتصورَهما عندما يدعو بهذا الدعاء.
قال ابنُ رجب رحمه الله تعالى: (أصل الاستقامة: استقامةُ القلب على التوحيد، وقد فسَّر أبو بكر رضي الله عنه الاستقامة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفة الله، وعلى خشيتِه، وإجلاله، ومهابته، ومحبَّتِه، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّل عليه، والإعراض عما سواه – استقامت الجوارح كلُّها على طاعته؛ فإن القلب هو ملِكُ الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنودُه ورعاياه، وأعظمُ ما يراعى استقامتُه بعد القلب من الجوارح اللسانُ؛ فإنه ترجمانُ القلب والمعبِّر عنه).
وحقيقةُ الاستقامة أنها فِعل ما ينبغي فِعلُه، وتركُ ما ينبغي تركُه؛ فهي تشمل الدِّين كلَّه، وتنتظم كل الأوامر والنواهي، فلها ركنان:
الأول: فعل المأمورات، وهو يشمل الواجبات، مثل: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والمستحبَّات، مثل: صلاة النافلة، والنفقة غير الواجبة، ونافلة العِلم.
الثاني: ترك المنهيَّات، وهو يشمل المحرَّمات، مثل: عقوق الوالدين، والزنا، وشُرب الخمر، والمكروهات، مثل: الأخذ بالشِّمال، والإعطاء بها، والنوم قبل العِشاء، والحديث بعدها.
فالاستقامة وسَطٌ بين الإفراط والتفريط، وقد جاء في الآية النهيُ عن الإفراط بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْغَوْا ﴾، وهو يتضمن النهيَ عن التفريط؛ لأنه يقابله، وهي تتعلَّق بالعقائد والأعمال والأخلاق؛ فإنها في العقائد: اجتنابُ التشبيهِ والتأويل والتعطيل والصرفِ عن الظاهر، وسائر انحرافات الفِرَق المجانِبَة للصواب، وفي الأعمال: الاحتراز عن الزيادة والنقصان والبِدَع والمُحدَثات، والتغيير للكتاب، والتبديل للسُّنَن، والتقليد للرجال وللآراء، وفي الأخلاق: التباعد عن طرَفَيِ الإفراط والتفريط، وهذا في غاية العُسر؛ لذا قال ابن عباس: ما نزَل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آيةٌ هي أشد ولا أشقُّ من هذه الآية عليه؛ ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرَع إليك الشيبُ: “شيَّبَتْني هودٌ وأخواتُها”؛ وسُئِل عما في هود فقال: قوله: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ .
وللاستقامة موانع، وهي تنقسم إلى قسمين:
أولاً: موانع عامَّة (مشتركة بين الشيب والشباب) وهي:
1 – اتباع الشهوات: وهي الرغباتُ المركَّبة في النسيج البشري بمقتضى الحِكمة الإلهية؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾، وهي ضروريَّة لحفظ الحياة، والانحرافُ في إشباعها هو طريقُ الدمار الذي يعبِّدُه إبليسُ للسائرين، ويذَلِّلُه للسالكين، والسبب في اللهث وراءها ضعفُ الوازع الديني، والتعلُّق بالدنيا، والغفلة عن الآخرة.
واتباع الشهواتِ: هو اتباعٌ للهوى الذي يصدُّ عن الحق؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، وهو الذي منَع أهلَ الكتاب من اتباعِ الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يعرِفونه كما يعرفون أبناءهم، ومنَع المشركين من الاستجابة بعدما تبين لهم الحقُّ، ودفَع أتباعَ مسيلِمة أن يقولوا: كذَّابُ ربيعةَ أحبُّ إلينا من صادق مُضَرَ.
ومن آثار اتباع الشهوات: الاستهانة بالصغائر، مثل: الكلمة المحرَّمة، والنظرة المحرَّمة، واللُّقمة المحرَّمة، ونحوها، والإصرار على الكبائر، مثل: الكذب، وشُرْب الخمر، والزِّنا، ونحوها.
2 – التأثُّر بالشُّبهات: وهي الأفكار الهدَّامة، والمناهج المنحرفة، التي يزيِّنها شياطين الإنس والجِن، ويروِّجون لها عبرَ الوسائل المختلفة، والوسائط المتنوعة، وهي من بناتِ أفكارهم الساقطة، وأوهامهم الإبليسية؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾.
ومن آثار الشُّبهات: التَّشكيك في الخالق عز وجل، والدعوة إلى الإلحاد، والمناداة بفصلِ الدِّين عن الدولة، والترويج لخروج المرأة وتبرُّجِها واختلاطها بالرجال، تحت مسمى: تحرير المرأة، وباسمِ الحضارة والثقافة والرَّشاقة، والطعن في السنَّة أو في حَمَلَتِها من الصحابة والعلماء، والدعوة إلى التفسيرِ العصريِّ، وتجديد الفقه وأصولِه، والتشكيك في حُجِّية السنَّة، وغير ذلك من الشبهات.
ثانيًا: موانع خاصة للشباب وهي:
1 – تراجع دور الأسرة: وهي المحضن الأول للتربية؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾، ومن وسائلِ تحصين الأسرة للشباب ومعاونتهم على الاستقامة:
- ربطُهم بالله سبحانه؛ قال لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ .
- الدعاء لهم؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ .
- إطابة مطعمِهم؛ لأن كلَّ لحم نبَت من الحرام، فالنارُ أَولى به.
- توجيهُهم إلى العِلم النافع والعمل الصالح؛ قالت أمُّ سفيانَ الثوريِّ له: يا بني، اطلبِ العلم وأنا أكفيك بمِغزلي، وابن حجر العسقلاني الذي ألَّف لابنه: (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) ليحفَظَه، وفرَغ منه ولولده نحوُ ثلاثَ عَشْرةَ سنةً.
- متابعتُهم في أمورهم الكبيرة والصغيرة، وصداقاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه” .
- تلبيةُ متطلَّبات الفِطرة والغريزة؛ قال قتادة بن دعامة السَّدوسيُّ: كان يقال: إذا بلغ الغلامُ فلم يزوِّجْه أبوه، فأصاب فاحشةً، أثِمَ الأبُ.
2 – تراجع دور المدرسة: وهي المحضن الثاني للتربية؛ حيث يكون فيها التعليم والإرشاد، والتشجيع وتنمية المواهب والقدرات، لكنها تحتاجُ إلى المعلِّم القدوة، المخلص في عملِه، الذي يحسن التعامل، وينتقي الكلمات، ويستثمر المواقف.
3 – وسائل الإعلام: تميَّز الإعلام المعاصر بالجاذبية والتشويق، والتنوُّع والكثرة والسهولة؛ ولذا أصبح سلاحا خطيرا يقود إلى الانحراف، ويدمر الأخلاق إن أُسيء استخدامُه، وهو الآن أهم عضو في الأسرة، وله آثار سيئة في العقيدة والأخلاق والثقافة والأمن والصحة، وغيرها من المجالات، ومن أشهر أدواته التي انشغل بها الشباب: الفيس بوك، والواتس آب، واليوتيوب، والقنوات الفضائية، وأكثرهم يسيئون التعامل معه؛ لقلة الوعي بمخاطره، والجهل بمخططات الأعداء، وضَعْف الوازع الديني، فكان مِعولاً هدَّامًا بأيدي أعدائنا.
4 – الفراغ والبطالة: ومن آثارها: ضياعُ الوقت، وإهدارُ العمر؛ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ”؛ أخرجه البخاري، وعنه أيضًا قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يعظُه: “اغتنم خَمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك”؛ أخرجه الحاكم، والبيهقي في شُعَب الإيمان، والفراغ من أسباب التفكير في المعاصي والانحراف، والصحة تُعِين على ذلك.
5 – قُرَناء السوء: فهم يزيِّنون الشرَّ، ويحسِّنون القبيح، وقد بيَّن الله ضرر قرين السوء فقال: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾.
6 – طول الأمل: حيث يغترُّ الشابُّ بقوّته، ويخدع بشبابه وصحته، فيسيء العمل، حتى يهجم عليه الموت وقد يكون على أسوأ حال، ويخرج من الدنيا على أقبح خاتمة.
موقع الألوكة ( بتصرف)