غزة كاشفة الحقائق – سحر الخطيب
كشفت غزة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، الحقيقة المرة، حقيقة الغرب الزائفة المصطنعة، حقيقة المواثيق الدولية، حقيقة الأمم المتحدة ومؤسساتها، الحقيقة المرة لهذا العالم المنبطح تحت ثقل المصالح والحسابات الجيوستراتيجية الضيقة كما كشفت غزة الحقيقة الجميلة والإنسانية للعالم الحر، وأحقية ثقافة المقاومة على حساب ثقافة المساومة والمداهنة، كشفت المعادن الطيبة وتلك الخبيثة الدفينة.
إن الانتقام المفجع لقوات الاحتلال وما ترتب عنه من كلفة إنسانية ثقافية حضارية عالية لا تقدر لا بإحصاءات ولا بأرقام، ولا تحسب بدراسات ولا بلجان تقصي.
هذا العدوان لا يضاهيه أي عدوان سابق في الهمجية والفظاعة والتقتيل والدمار والتجويع و التشريد والنزوح والقتل البطيء والسريع والحرمان من الإسعافات الأولية والمتابعة الطبية، واستهداف الأطقم الطبية والمستشفيات والأطقم الصحفية أي كل ما يتعين حمايته ويمنع تهديده “بموجب القرارات والقوانين الدولية”.
هذا العدوان المتوحش أدى إلى اندلاع احتجاجات عالمية واسعة قل نظيرها. ما انبثق من هذه الاحتجاجات هو تأكيد القدرة الكبيرة والواسعة على تعبئة الجماهير والحشود لقضية قد يبدو لأول وهلة أنها أصبحت نسيا منسيا.
كشف هذا القتل البشع والجماعي للمدنيين دون حماية ودون سلاح وعلى رأسهم الأطفال والنساء، وهذه الإبادة الجماعية للبشر والحجر على مرأى ومسمع من العالم بأسره على المباشر حقيقة العالم العربي والغربي والاتزان المزعوم الذي كان يبديانه، كشفا النفاق الفاضح من خلال مواقفهما من القضية الفلسطينية وأظهرا الهوة العميقة التي تتسع يوما عن يوم بين الشعوب والرأي الحر العالمي من جهة وبين الحكومات والأنظمة الرسمية من جهة أخرى. ثم أن عمق الدمار والوحشية والهمجية التي نفذها على أرض فلسطين بكل بشاعة الكيان الصهيوني ومن سانده بالمال والعتاد، وكذا من والاه من خونة وعملاء كشف أن المراد هو إبادة حضارية، إبادة ثقافة بأكملها، إبادة تاريخ وتراث شاهدين على الأحقية بملكية المكان والزمان.
في آخر نونبر 2023، دمر القصف الهمجي المكثف على غزة المبنى المركزي للأرشيف المتواجد ببلدية غزة، الذي يضم الآلاف من الوثائق التاريخية يرجع عمرها إلى 150 سنة. تمثل هذه الوثائق جزءا لا يتجزأ من التاريخ والثقافة الفلسطينيين. لقد تم تدمير المبنى وأعدم معه الآلاف من الوثائق التاريخية التي تمثل ذاكرة المدينة وتاريخها ووثائق تعود لمئات السنين ضمن سجلات وطنية ترجع لأجيال مضت، تتضمن معلومات عن تاريخ غزة وأهلها مع خطط التطوير العمراني للقطاع.
إن هذا القصف استهدف ويستهدف ذاكرة وتراث فلسطين، اللذين يرجعان إلى ما قبل إحداث دولة الكيان الغاشم، قصف يريد أن يمحو الذاكرة التي ينتمي إليها السكان المحليون.
يتم إحصاء العدوان على غزة، من خلال الكلفة الإنسانية العالية التي بلغت 100 ألف ضحية في 100 يوم من القصف، 70 بالمائة منهم من الأطفال والنساء تم إبادتهم عمدا، بكل وقاحة وجرأة لا مثيل لهما عند الأسوياء من البشر.
إلا أن هذه الإبادة كما أفنت البشر، خسفت الحجر وطالت عدة بنايات تاريخية وثقافية كالمواقع الأثرية والمتاحف والمراكز الثقافية والأسواق والكنائس القديمة والمساجد كالمسجد العمري الكبير، أحد أقدم المساجد في فلسطين التاريخية وعدة كنائس منها الكنيسة الأرثودوكسية الإغريقية التي يبلغ عمرها 1000 سنة والمتواجدة في وسط غزة وتعتبر ثالث أقدم كنيسة في العالم.
طال القصف مركزا ثقافيا تم إحداثه سنة 1985 ويضم مسرحا ومكتبة تحتوي على 20 ألف مؤلف، ودمر مبنى المجلس التشريعي الفلسطيني الذي يوجد بقرب النصب التذكاري للجندي المجهول والذي يمثل كفاح ونضال الشعب الفلسطيني، ولم يسلم من هذا الدمار أيضا مقبرة رومانية، تم اكتشافها السنة الماضية في شمال غزة يبلغ عمرها 2000 عام.
هناك دراسة حديثة أثبتت أن 100 معلم أثري تم محوه من جراء القصف العشوائي منذ بداية العدوان الحالي.
هذه الإبادة الحضارية الثقافية تجسد المحاولات المتكررة لنسف الحق الفلسطيني في الوجود ومحو الهوية الثقافية الفلسطينية.
بالفعل، فالخسارة لم تكن في الأرواح البشرية للمدنيين العزل فقط، بل طالت أيضا المبدعين والمفكرين والكتاب والأكاديميين من مثل رفعت العرعير الذي تجوب أشعاره باللغة الإنجليزية العالم الآن، ومن مثل العالم الفلسطيني البارز سفيان تايه وأسرته، الذي كان رئيسا للجامعة الإسلامية، لأن الكيان الغاصب دأب على هذا القتل الممنهج للمثقفين الفلسطينيين كغسان كنفاني وناجي العلي مبدع حنظلة وآخرين، لأنهم هم من يحملون رسالة المقاومة ويمررونها من جيل لآخر وينحتونها نحتا في عمق الذاكرة.
مهما بلغت هذه الإبادة البشرية ما بلغت، وما يصاحبها من إبادة هوياتية، ثقافية، فكرية، تراثية حضارية ورغم ما تفقد الحضارة الإنسانية العالمية من ثراء وغنى ينضحان به تاريخ وثقافة غزة الفلسطينية إلا أنها لا تخلو من تداعيات إيجابية رغم مرارتها وألم: فقد حفظت غزة حياة الشرف والكرامة والحرية حتى وهي غارقة في دماء بنيها وحتى وهي تنزف تحت الأنقاض.
أعادت غزة الحياة لمعنى الوجود بكرامة، لمعنى الوجود في ظل المقاومة، فأضفت صبغة العز والشهامة على فكرة الإنسان كإنسان بعد أن سلبته المادية الطاغية والعولمة الزاحفة هذه الصبغة. فلولا آلام غزة وجراحاتها، لتسرب الذل والمهانة ليس فقط إلى روح وقلب العالم العربي والإسلامي بل إلى الإنسانية جمعاء.
أعظم ما قدمته غزة للوجود هي فكرة، وروح تتجلى في إعادة الثقة إلى المظلوم والمقهور بقدرته على التحرر، وعلى تحقيق العدالة وعلى صناعة شيء ما والدفاع عن المصير المنهوب ولو بمشرط، ولو بحجر، ولو بآلة تصوير، بصرف النظر عن فارق القوة، فكرة أن الحق المغتصب ينتزع و لا يساوم عليه.
إن الفكرة المجردة التي أحيتها غزة في العالم الحر بأسره وهي فكرة وروح الانتصار للوجود بأبسط ما يملك المظلوم، فكرة وروح الاعتراض على الباطل ورفضه بأدنى ما يملك الآدمي. وهذه الحقيقة ما لبثت أن تجلت للعالم بأسره حتى انتفض مناهضا للاستبداد والطغيان والاستعباد والاستلاب للنظام العالمي الزاحف والضاغط بمادياته وقنواته الإعلامية المتحيزة لقوى التدمير. ودوى مجلجلا مطالبا بالتحرر والحياة الكريمة ورفع الظلم. كل هذه وتلك حقائق ثمينة كشفتها غزة ولم يكن لغير غزة أن يكشفها رغم التضحيات والآلام والدماء.
إننا في الآونة الراهنة في مفترق طرق، في مرحلة مفصلية في حياة الإنسانية سيكون لحقيقة غزة حتما القول الفصل والكلمة الختم في محكمة الحضارة التاريخية.