غزة.. حين يكتب الصمود فصلا جديدا في تاريخ الإنسان – الحسن اكتيف

ليست غزة مجرد مدينة محاصرة في رقعة ضيّقة من الأرض؛ إنها أيقونة تتجاوز حدود الجغرافيا، ورمز يتخطى الزمن. غزة اليوم لا تنهض من بين الركام فقط، بل تصعد من بين الأساطير، كأنها كُتبت لتعيد تعريف معنى الصبر حين يُرهَق، ومعنى الإرادة حين تُحاصَر، ومعنى الحياة حين يُظن أنها انتهت.
الغزيّ، هذا الإنسان العجيب، لا ينتمي إلى منطق الناس في هذا العصر هو نسيج وحده؛ امرأة وطفل وشاب وكهل، كل منهم يحمل في عروقه معنى البقاء، ومن مجموعهم تتشكل معادلة لا تفهمها الجيوش: شعب إذا سقط، نهض، وإذا نهض، عاد أقوى مما كان، وصار رمزا.
لقد رأى العالم في العامين الماضيين ما لم يكن يتوقع أن يراه: شعب يعيش تحت القصف والبرد والجوع وانقطاع الماء والدواء، ومع ذلك يُصر على الحياة، شعبٌ تُقتلع بيوته من جذورها، فيعود ليبني خيمة فوق أنقاضها، وكأنه يعلن للعالم: “هذه الأرض لي، في حياتي وبعد مماتي.”
إن غزة اليوم ليست سؤالا في السياسة، ولا ورقة على طاولة المفاوضات، غزة أصبحت اختبارا أخلاقيا للعالم كله. إنها الأرض التي أيقظت الضمائر من سباتها الطويل، فخرج أحرار العالم من مختلف الألوان والأديان واللغات إلى الشوارع نصرة لغزة، فانتصرت غزة للإنسان وباتت على كل لسان، ولعل هذا هو أحد أعظم انتصارات غزة: أنها أعادت للإنسانية جزءا من روحها المفقودة.
وقد يتساءل البعض: لماذا لا ينكسر الغزّي؟ والجواب يكون أقرب إلى البديهة: إن من تعلّم أن العيش وسط الشدائد، لن تخيفه العواصف، ومن حمل مفاتيح بيته سبعين سنة، لن يتخلى عنها في عامين، ومن كتب وثيقة ملكيته بدمائه ودماء أبنائه، لن يوقع صك الهزيمة أبدا.
عامان من الإبادة والقصف والتجويع لم تفعل سوى أن زادت الغزّي يقينا بأن الأرض تُروى بالدم، وأن الأشجار التي ستنبت بعد هذا الخراب ستكون أصلب جذورا، وأقرب أغصانا إلى السماء. عامان والعالم يرى كيف أن العنقاء التي أرادوا حرقها، تولد من جديد، لا من الأسطورة هذه المرة، بل من قلب غزة تحديدا؛ من بين العتمة والبرد، من أعماق الأنفاق، من صوت الأمهات وهن يودعن أبناءهن بدمع لا يضعف، وبرضا يجعل العالم يطأطئ رأسه خجلا.
غزة لأهلها، هذه ليست شعارا يُتداول، بل حقيقة كتبتها السماء. رُفعت الأقلام وجفّت الصحف. وما تبقى هو أن يقف التاريخ ليشهد، أن الأرض التي ارتوت بالصبر والدم واليقين، لا تعرف إلا النهوض.
وغدا، الذي يراه البعض بعيدا، يراه الغزي قريبا، أقرب من أنفاسه، وغدا حين تنبت الأشجار من قلب الدمار، سيعرف العالم أن غزة لم تكن فقط مكانًا يقاوم، بل كانت درسًا يُلقيه التاريخ على البشرية كلها.



