غزة بوصلة العالم نحو الرشد – عبدالهادي باباخويا
شكلت غزة قبلة العالم أجمع في الأشهر الأخيرة بالخصوص، بين معتد على حقوقها وداعم لحصارها، وبين مدافع عن مطالبها وأشواقها نحو الحرية والكرامة.
لكنها حسب “علماء الاجتماع” صارت أداة حقيقية لفهم طبيعة الفكر الإنساني المعاصر، وتشكيلاته وانحيازاته المعرفية والقيمية. بما يجعل الموقف من أحداث غزة اليوم معيارا علميا، يهدي الباحثين نحو فهم الوجود الإنساني، وإدراك النموذج الحضاري الحالي، وأيضا أهم القضايا الأساسية التي تشغل الإنسان المعاصر..
ولا عجب إذا قررنا أن غزة اليوم هي بوصلة العالم، لأن كل المؤشرات تؤكد نهاية “منظومة فكرية” مدمرة، موغلة في التحكم والإستنزاف لمقدرات البشرية. كما أنها مبشرة بميلاد “خطوط عرض وطول” حضارية جديدة، حيث دفعت القوى الحية في العالم إلى تلمس مواطن العطب في “المنظومة الحالية”، بما وفرته من حقائق مختلفة الأحجام والأشكال، وقادتها نحو الإستعداد لاستبدال معطياتها المخربة، بأخرى مطمئنة وهادية نحو الرشد في التفكير والكرامة في التدبير..
لقد أصبحت غزة اليوم بما تملكه من طاقة معنوية فائضة – ولدتها ثقتها في إمكانياتها وقدراتها الذاتية- قوة جذب عالمية ومغناطيس مؤثر في بنية الشعوب والمنظمات، وأداة ناعمة في إحياء النضال من أجل الحقوق وصيانة الكرامة الإنسانية..
كيف فقد العالم رشده..؟
مما يدعو للدهشة والإستغراب، ما وصلت إليه الإنسانية من توحش وافتراس، وتنكيل بضعيفها من طرف الأقوى والمسيطر.. وهذه وضعية أفقدت الإنسانية العديد من خصائصها الفطرية وعناصر وجودها الجوهرية، وإن كانت لها أسباب كثيرة موغلة في القدم، إلا أن أبرزها هو تساقط شروط الرشد في مختلف التحولات التي يعيشها الإنسان المعاصر. حيث نرى كثيرا من آثارها السلبية ماثلة في واقعنا، كسياسة القهر وتطويع الشعوب لإرادة فاسدة، وإشعال الحروب وإغراق الناس بالفتن والمحن، وغياب معايير محسومة في إنتاج العلم وبناء التقنية، حتى تحول الإنسان إلى شيء مادي يساوي السلع ومعروضات الرصيف..
إن هذا الإنحدار سببه الرئيسي هو غياب الرشد في فهم طبيعة الإنسان وأصل وجوده، مما ضيق حياته وأدخلها في شرود أثر في وجدانه، وساهم في إعادة صياغة رؤيته لنفسه وللآخر، وفق رؤية مادية عدمية لا تؤمن بالقيم والأخلاق، بل تعشق السيطرة والثروة في غياب تام للحكمة والمعرفة..
فغياب البعد الإنساني في الحياة المعاصرة، وطغيان القوة المادية كوسيلة لحسم الإختلافات والخصوصيات، ولد صراعات ونزاعات مدمرة للحضارة وفاتكة بالرصيد الفكري المشترك بين الشعوب والثقافات.
وقضية فلسطين “أرضا وشعبا” والصراع الدائر في المنطقة، إحدى أوجه غياب الرشد في الحضارة المعاصرة، حيث يتم مثلا تبرير الإستيطان بأساطير وخرافات مضحكة، ويصبح الظلم والعدوان والقتل له حماية دولية ورعاية قانونية، وأعمال الإبادة والتهجير نشاط نبيل تمليه الضرورة التوسعية للأقوى.
إن وجود إسرائيل بوجهها القبيح، المجرد من العقل الآدمي والقيم الإنسانية، دليل على اختلال موازين العالم وبيان جلي على انحطاط البشرية، لتواطئها على الكذب والسطو وإهانة الكرامة الإنسانية.
فلسفة غزة في استعادة الرشد:
إذا كانت إسرائيل اليوم هي عنوان فساد العالم واختلال نظامه، ففي المقابل هناك غزة “تاج فلسطين وأيقونة المسلمين”، تقدم للعالم رؤية إنسانية رائعة وعظيمة، عن الإنسان والحياة والكون والمصير..
إن قضية الإنسان حاضرة بقوة في معركة غزة، بل حجر الزاوية فيها هو الدفاع عن خاصيته الإنسانية المتميزة، ودعم سموه الروحي بتجربة ميدانية، تجتمع فيها القيم الروحية والأخلاق الإنسانية، بالمهارات العسكرية والعقيدة القتالية.
فبقدر ما تغوص إسرائيل في وضاعة الضمير وحقارة التفكير وشذوذ الممارسة، تسترد غزة رشدها صابرة على ظلم العالم وتكالبه، وتدفع ثمن عزتها وكرامتها بالشهادة على عجزنا وتخاذلنا، أمام وجعها وبطش الجبروت بها.
غزة اليوم بفلسفتها الراشدة، تعيد بناء العالم برجولة أبطالها وشهامة نسائها وجلد أطفالها..
غزة اليوم بنظرتها المتكاملة للوجود، وسلوكها المتوازن في إثبات الذات، واستثمار الممكنات في الدفاع عن أرضها وحقها في الحرية والإستقلال.. تعدل ميزان العالم نحو المعنى الإنساني الفطري، والنموذج الأخلاقي الحداثي..
من الحجارة إلى السكين إلى البندقية، وعبر المخيمات والملاجئ والأنفاق، دروس وأفكار جعلت من غزة بوصلة حقيقية لعالم فقد رشده.