غزة بعد 16 عامًا من الانسحاب الإسرائيلي.. إلى أين؟! – مأمون أبو عامر
شكل الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة بعد 38 عامًا من احتلاله، وإخلاء المستوطنات؛ نقطة تحول تاريخية في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد جاء القرار بعد خمسة أعوام من مقاومة باسلة من فصائل المقاومة في غزة خلال انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000. لكن التساؤل الأهم: هل كان القرار وليد الحاجة أو اللحظة السياسية، أم أن هناك جذورا لهذه الفكرة في الرؤية الأمنية والسياسية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة؟! وما دوافع هذا القرار في هذا التوقيت بالذات؟
التفكير في الانسحاب
قرار الانسحاب وبهذه الطريقة من قطاع غزة هو جزء من رؤية إسرائيلية شاملة، تقوم على أنه منذ أن تم احتلال القطاع في حرب حزيران/ يونيو 1967، باعتباره بوابة لتأمين السيطرة على سيناء المصرية، ومخزنا بشريا للقوى العاملة التي يحتاج إليها الاقتصاد الإسرائيلي الناشئ، في وقت كان أهل القطاع يعانون الفقر المدقع. لكن هذه النظرة الإسرائيلية بدأت تتغير مع اندلاع الانتفاضة الأولى، إذ بدأ تحول قطاع غزة إلى عبء أمني، خاصة مع تطور العمل العسكري إلى جانب الثورة الشعبية.
وقد طرح مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي “يافا” في دراسة صدرت عام 1989 فكرة الانسحاب من غزة حتى لو من جانب واحد؛ كأحد الخيارات للتخلص من العبء الأمني والمعيشي لسكان قطاع غزة. وقد تعزز هذا التوجه من خلال التصريحات التي كان يطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بالقول: “أتمنى أن أستيقظ من نومي وأجد غزة قد ابتلعها البحر”.
قلب الموازين
لكن اتفاقية أسلو 1993 بدلًا من أن تعجل بالانسحاب لأن (إسرائيل) كانت بكل وضوح تبحث عن طرف إقليمي أو محلي يخلصها من هذا العبء، جاءت لتعيد تثبيت أقدام الاحتلال في القطاع عبر حل أقرب للخيال السياسي منه لأي منطق سياسي بتشكيل سلطة فلسطينية وإدارة شؤون الحياة بما يضمن أمن المستوطنات وقوات الاحتلال في القطاع. وكان هذا بمنزلة فشل للمفاوض الفلسطيني في ترجمة هذا الضغط إلى مكسب سياسي وإجبار (إسرائيل) على الانسحاب الكامل من قطاع غزة، وكان قبول بقاء المستوطنات في قطاع غزة بمنزلة كارثة فلسطينية دفع الشعب الفلسطيني ثمنها خلال انتفاضة الأقصى.
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000، وجد المستوطنون أنفسهم تحت رحمة صواريخ المقاومة واقتحامات المستوطنات، ما أجبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون (صاحب مقولة “دين نتساريم كدين تل أبيب”، أي أن أمن مستوطنة نتساريم المكونة من 70 عائلة يعادل أمن تل أبيب، وبسبب فشل كل جهود جيش الاحتلال في حماية هذه المستوطنات، على تغيير موقفه والقبول برؤية طرحت من جديد من قبل مركز هرتسليا لدراسات الأمن القومي عام 2003. وبدأت الحكومة فعلًا تتحرك بهذا الاتجاه، وكان القرار بأن يكون الانسحاب من طرف واحد وبدون تنسيق مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي أربك المشهد الفلسطيني الداخلي!
لماذا انسحبت من طرف واحد؟!
على الرغم من الشراكة السياسية مع السلطة عبر اتفاق أوسلو الذي ينص على عدم تغيير الأوضاع في المناطق المحتلة إلا باتفاق بين الطرفين، فالانسحاب من جانب واحد كان بمثابة ورقة إسرائيلية تهدف من خلالها لحرمان الطرف الفلسطيني من إعلان السيادة الكاملة على قطاع غزة، ما يمنع تشكيل دولة فلسطينية مستقلة، باستمرار وضع قانوني ضبابي يعطي الفرصة لـ(إسرائيل) لتبرير سياسات السيطرة والتحكم بالمنافذ باعتبارها منطقة حكم ذاتي، أو بالتخلي عن المسؤولية الأخلاقية للواقع المعيشي عبر التبرير بعدم وجودها على الأرض، فهي لا تتحمل المسؤولية.
وبالتالي بقي قطاع غزة يخضع للتحكم الإسرائيلي من الخارج وفرض حصار محكم، من دون أن يتحمل تبعات ما يجري هناك.
تهديدات جديدة من غزة!
شكل اكتشاف الغاز في منطقة شرق المتوسط فرصة استراتيجية للحصول على موارد الطاقة، لكن الأمر الذي لم يكن بالحسبان الإسرائيلي هو سيطرة فصائل المقاومة على غزة، ونجاحها في تصنيع منظومات صاروخية تزداد قدراتها على الوصول إلى الأهداف البعيدة وتدميرها وبدقة، ما شكل خطرًا كبيرًا على المصالح الإسرائيلية، والتأثير على الملاحة الإسرائيلية في البحر، وعلى أمن وسلامة منشآت الغاز في البحر المتوسط في حقلي ليفتان وتمار، وهي تشكل خطرًا على خط الغاز الاستراتيجي “إيست ميد” الذي خطط له لنقل غاز شرق المتوسط إلى دول جنوب شرق أوروبا وبما يمثل 10 في المئة من حاجات أوروبا.
المعضلة الإسرائيلية في غزة!
مع حصار مشدد على قطاع غزة منذ سيطرة حماس على القطاع، وفي الـ16 عامًا، شن جيش الاحتلال أربع حروب على غزة، علاوة على عمليات عسكرية محدودة. كان دائمًا العنوان هو استعادة الأمن عبر استعادة الردع، لكن هذا لم يجدِ.
امتنع الجيش الإسرائيلي عن محاولة احتلال قطاع غزة، وبدا واضحًا أنه يتجنب فكرة العودة للسيطرة على غزة من جديد، على الرغم من التحديات الكبيرة التي برزت من بعد الانسحاب. يبدو أن ما تركه شارون وكان يحلم به رابين لن يجرؤ أحد على العودة إليه، وسيبقى الوضع في قطاع غزة معضلة سياسية وأمنية لدولة الاحتلال، فلا هي قادرة على ترك قطاع غزة يواجه مصيره، ولا هي قادرة على وضع استراتيجية أمنية تجبر المقاومة في غزة على الخضوع للحاجات الأمنية الإسرائيلية!
مأمون أبو عامر