نورالدين الهادي يكتب: الحكام العرب في حالة شرود قصوى
غزاويات طوفان الأقصى(5)

ونحن نتابع تطور الحدث الأهم في تاريخ الأمة العربية والإسلامية، المتعلق بحرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني الإرهابي الجاثم على أرض فلسطين منذ أكثر من سبعة عقود، وبعد الاعتداء الشنيع على سيادة دولة قطر الوسيط المحوري في هذه الحرب، بمحاولة اغتيال من تبقى من قيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، ودعوة الدوحة زعماء الدول العربية والإسلامية إلى “قمة ” طارئة تعد الأسرع تنظيما، لمناقشة هذا الاعتداء الغاشم ومسبباته وتداعياته، لا تغيب عن ذاكرتنا القمم السابقة التي بلغ عددها 51 قمة مابين القمم العادية والطارئة، ومما يمنح جيلنا أفضلية المتابعة أننا عاصرنا أغلبها منذ ستينيات القرن الماضي، وكان شعارها جميعا ومضامينها وقرارتها نسخة طبق الأصل لبعضها البعض، ولم تخرج في معظمها عن ردات الفعل ومحاولات حفظ ماء الوجه، وطافت ديار العرب شرقا وغربا، وتنوعت قراراتها وتشابهت بياناتها الختامية، لكن الأقوال كانت أعلى من الأفعال، ولا تخرج عن نسق واحد يطبعها جميعا : استنكار وإدانة وشجب… وهو ما عبر عنه الشاعر عبد الرحمن بن صالح العشماوي السوري الأصل في إحدى قصائده قائلا :
يا دار مـأســاة الـشـعـوب تـكــــلـمــــي ** وعِمِّـي صـبـاح الــذل فيـنـا وأسلـمــــي
إنا على المأساة نشـرب ليلنـا سهـــــــــراً ** وفــــي حــُضــن الـتـوجــس نـرتــمــي
مــــا بــيــن مـؤتـمــر ومـؤتـمــر نــــرى ** شـبـحـاً يـعـبِّـر عــــن خــيــال مـبـهــــم
الـتـوصـيـات تــنـــام فـــــوق رفـوفــهــا ** نـــومَ الفـقـيـر أمـــام بــــاب الأشـــــــأم
شـجـبٌ وإنـكـارٌ وتـلـك حكـايـة مـاتــــت ** لـتــحــيــا صـــرخــــةُ الـمـسـتـســلـــــم
أعلن عن هذه القمة بعدما بالغ زعيم الإرهاب نتن ياهو فقرر ضرب عصفورين بحجر، الأول اغتيال قادة حماس رغم كونهم من يفاوض لإطلاق أسراه، والثاني اختبار دول مجلس التعاون الخليجي بضرب أحد أعضائه البارزين، وإرهابه ليمارس ضغوطه على وفد حماس المفاوض، وإمعانا في الإذلال والغطرسة، وفي نفس اليوم الذي كان وزراء الخارجية للدول العربية والإسلامية مجتمعين في الدوحة لصياغة موقف “موحد”، حط وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الرحال في تل أبيب وزار حائط البراق في القدس الشريف رفقة الإرهابي نتن ياهو، وأديا طقوسا تلموذية، ثم افتتحا نفقا يبلغ طوله 600 متر، تحت البلدة القديمة لمدينة القدس، بالمحاذاة مع أساسات المسجد الأقصى المبارك مما يهدد بانهياره وتهويده، وصرحا أن علاقة أمريكا و”إسرائيل” هي الأقوى على مدار التاريخ، كذلك عبر الوزير الأمريكي عن نفس مطالب الحكومة الإرهابية الإسرائيلية القاضية بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين دون الحديث عن وقف حرب الإبادة في قطاع غزة، كذلك صرح أنه لا يمكن تحقيق مستقبل لغزة دون القضاء على حماس، علما أنها هي التي تحاوره لإطلاق سراح الأسرى، كذلك صرح نتن ياهو أنه سيضرب قيادة حماس أينما كانت، مما يشير إالى معاودة الاعتداء على قطر.
إن تزامن هذه الزيارة مع اجتماع الدوحة له دلالات خطيرة، أولها الدعم المالي والعسكري والسياسي الأمريكي المطلق واللامشروط للكيان الصهيوني وتأكيد تحالفهما التاريخي القوي، خاصة في ظل ولاية ترامب السابقة والحالية، وهو رد ورسالة واضحة إلى زعماء الدول العربية والإسلامية وعلى ما يمكنهم اتخاذه من “قرارات” تعرف الإدارة الأمريكية أنها لا تسمن ولا تغني من جوع، كونها ولي نعمتهم.
قبل انعقاد القمة بيوم واحد وجّهت الفصائل والقوى الفلسطينية رسالة مفتوحة إلى القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة، تعرب فيها عن تطلعاتها إلى إجراءات عملية عاجلة لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، مؤكدة أن هذه “فرصة تاريخية لإعلاء صوت الأمة وتأكيد وحدتها”، “لقد دخل العدوان الصهيوني المتواصل على قطاع غزة شهره الـ24، مخلفا مآسي إنسانية غير مسبوقة: مئات آلاف الشهداء والمفقودين والأسرى والجرحى، دمارا واسعا للحياة وللبنية التحتية، حصارا خانقا، وتجويعا وتهجيرا قسريا يهدد بقاء شعبنا على أرضه”، وأشارت القوى الفلسطينية إلى أن “الجرائم الإسرائيلية لم تقتصر على الشعب الفلسطيني فحسب، بل امتدت آثارها لتهدد أمن واستقرار أمتنا العربية والإسلامية بأسره، وأضافت “وما العدوان الإسرائيلي الأخير على العاصمة القطرية الدوحة، واستهداف الوفد المفاوض والذي سبقه الاعتداء على لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران وتونس”، وطالبت القوى الفلسطينية بمواقف حاسمة “تتجاوز البيانات، لتصل إلى قرارات عملية وموحدة” ترتقي إلى “مستوى التحدي الذي يعصف بوجودنا”.
وحددت الرسالة تطلعات القوى الفلسطينية من هذه القمة في الشروع بشكل جماعي في إجراءات عاجلة لوقف حرب الإبادة في غزة عبر تشكيل تحالف عربي دولي يضغط على الاحتلال وداعميه بكل الأدوات الممكنة، و استخدام كل أوراق الضغط العربية بما فيها تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك واستخدام سلاح النفط وفرض عقوبات عربية متكاملة على الاحتلال الإسرائيلي، و تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة…والاتفاق على خطة عمل مشتركة تتضمن سلة عقوبات عربية إسلامية ضد الاحتلال والدول والكيانات والشركات الداعمة والشريكة لها، واعتماد إستراتيجية موحدة لحماية القدس من التهويد والمسجد الأقصى من التقسيم والضفة من الضم والتهجير والاقتلاع، وتعزيز التضامن العربي والإسلامي لترسيخ وحدة الصف في ظل الحديث عن حلم “إسرائيل الكبرى” الذي يستهدف السيطرة على الأرض العربية”.
بالعدوان على قطر أعطى نتن ياهو فرصة تاريخية وذهبية للعرب يمكنهم من خلالها معاقبته وردعه ورد الصاع صاعين، انطلاقا من حق الرد الذي تكفله القوانين الدولية، وفرصة سانحة يمكنهم المقايضة بها من أجل وقف حرب الإبادة على غزة، فاجتمع زعماء العرب والمسلمين يومه الإثنين 15 شتنبر 2025 في العاصمة القطرية، وليتَهم اجتمعوا عن بعد حتى لا نكبدهم وعثاء السفر، ونوفر على شعوبهم المقهورة قهر الاستبداد وقهر الفقر مصاريف تنقلهم وتنقل حاشياتهم الغفيرة، أسأنا الظن بالزعماء العرب متوقعين أن يتخذوا قرارات حاسمة تعيد لقطر عزها وشرفها الذي اغتالته الطائرات الصهيونية، لأن حسن الظن هو أنهم لن يخرجوا عن منطق الشجب والاستنكار الذي طبع قراراتهم منذ عقود، ثم لينقذوا ما يمكن إنقاذه، ويتخذوا المواقف العاجلة التي توقف تقتيل عشرات الآلاف من النساء والأطفال، وتدمير ما تبقى من الأبراج السكنية والدور في مدينة غزة، ووقف التهجير القسري لسكانها، ومواجهة طغيان نتن ياهو بقانون القوة وليس بقوة القانون الدولي الذي لا يعنيه البتة.
اختتمت “القمة” العربية والإسلامية واحسرتاه، فكان البيان الختامي للقمة الذي ضم عشرين توصية أغلبها مكرر بألفاظ وتعابير مختلفة، ولم تكن إلا صيحة في واد ونفخة في رماد وجعجعة بلا طحين وذلك عين اليقين، فكانت قراراتها مخيبة لآمال بعض المتفائلين، أما أغلب الجماهير العربية فتعلم من خلال التجربة والتاريخ، أن التحذير من تبعات ضم الضفة لغو في الكلام ما دام الإسرائيليون عمليا يقومون بالضم والرفع والكسر والتدمير والإغتيالات والاعتقالات في الضفة مع وجود “السلطة الفلسطينية”، وأكد البيان على: “مفهوم الأمن الجماعي والمصير المشترك للدول العربية والإسلامية وضرورة الاصطفاف ومواجهة التحديات والتهديدات المشتركة”، وهنا يطرح السؤال: أليست فلسطين جزءا من الوطن العربي والإسلامي وتضم أهم المقدسات الإسلامية، والمسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين؟؟ وانطلاقا من هذا المبدأ الذي يؤكد عليه هؤلاء القادة ألا يجدر إعلان الحرب على المستعمر لتحرير أرض فلسطين، والحالة هاته أن شعبا يباد دون أن تحرك الجيوش العربية ساكنا، وهي التي تصرف عليها مئات الملايير لشراء السلاح والعتاد ؟؟ كذلك حمّل الزعماء العرب كلا من المجتمع الدولي ومجلس الأمن مسؤوليتهم القانونية والأخلاقية لإنهاء الاحتلال، وهم يرون رأي العين المذابح اليومية في حق المدنيين العزل، فماذا فعلت المؤسسات الدولية؟؟ إذا كنا نحن أصحاب القضية نخذلها رغم امتلاك كل الإمكانات، فكيف نطلب من الغرباء فعل ذلك؟؟
لكن مصيبة المصائب، والعجب العجاب هو ما تضمنه القرار الأول الذي نص عليه البيان الختامي لقادة أمتنا العربية والإسلامية، كون ما تقوم به “إسرائيل” من ممارسات عدوانية: ” يهدد كل ما تم إنجازه على طريق إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، بما في ذلك الاتفاقات القائمة والمستقبلية “، القادة العرب يعتبرون العلاقات التطبيعية مع الكيان المغتصب إنجازا يجب المحافظة عليه والمراكمة عليه للقيام باتفاقات مستقبلية، يا للخجل، جماهير شعوبكم تنتظر قطع جميع العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، وغيرها من الأبواب التي فتحت لبني صهيون في الوطن العربي، ونبذها كما نبذتها دول في أوربا وأمريكا اللاتينية التي لا نشترك معها في دين ولا لغة ولا تاريخ ولا جغرافيا، لا أن نحافظ على “مكاسبها التطبيعية” ونمنيها ونبشرها باتفاقات مستقبلية، أم أنها تكتيكات سياسية بئيسة يتقنها زعماؤنا، بحيث يكون العربي تكتكجي ابن تكتكجي لمجابهة الصلف الصهيوني، لكن تكتيكات التكتكجيين العرب لم تفلح في تحقيق أي من حقوقهم التي ضاعت وسقطت بالتنازلات حتى لم يبق لهم شيئا يتنازلون عنه بعدما أوصلهم قادتهم إلى الحضيض، فهل من خلاص لهذا الهوان بعد حالة الشرود القصوى لحكام العرب والمسلمين؟؟