غداة يوم الطفولة: التنشئة أمانة عظيمة – سحر الخطيب

تحت نير مخاطر رقمية محدقة وفي ظل أسيجة واقية من منارات الوحي المضيئة
لا شك، أنها معادلة صعبة: طفولة هشة في فضاء رقمي لا يُغلق أبوابه أبدا. إذا كان “يوم الطفولة” هو ذلك الاحتفال الرمزي بالبراءة واللعب، فإن التنشئة غداة هذا اليوم تواجه تحديات لم تواجهها الأجيال السابقة.
نتناول في هذا المقال تحليلًا للمخاطر الرقمية المحدقة التي تواجه الأطفال والمراهقين في عصرنا، وكيف يمكن للتنشئة الواعية المستنيرة بنور الوحي والمأطرة بالمبادرات والمشاريع الوطنية المنيعة أن تكون الدرع الواقي والسياج الحامي:
أوجه الخطر.. رقمنة الطفولة بثمن باهظ
1 – الاستغلال والابتزاز الإلكتروني (الجرائم الإلكترونية)
أصبح المتطفلون والمتحرشون والمبتزون على بعد نقرة واحدة من الأطفال واليافعين. يستخدمون منصات الألعاب ووسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف ضحاياهم، مستغلين سذاجتهم ورغبتهم في تكوين صداقات.
2 – الانزياح عن العالم الواقعي (الإدمان الرقمي)
يؤدي قضاء ساعات طويلة أمام الشاشات إلى عزلة اجتماعية، وضعف المهارات الاجتماعية واللغوية، وإهمال الدراسة والهوايات. عالم افتراضي مثير قد يبدو أكثر جاذبية من عالم واقعي قد يكون مليئًا بالتحديات.
3 – الانزياح نحو العالم الافتراضي (الهوية والتنمر)
التنمر الإلكتروني: لم يعد التنمر ينتهي عند باب المدرسة، بل يتبع الطفل إلى غرفته عبر الهواتف والمنصات، مما يسبب أذى نفسياً عميقاً قد يصل إلى الاكتئاب أو الأفكار الانتحارية. فنصبح أمام أزمة في الهوية: ويبني الأطفال والمراهقون هويات رقمية قد تختلف تمامًا عن شخصياتهم الحقيقية، مما يؤدي إلى تشتت في فهم الذات والصراع بين العالمين الحقيقي والافتراضي.
4 – محو الخصوصية (البصمة الرقمية الأبدية)
ما يُنشر على الإنترنت يبقى للأبد. تشكل الصور، التعليقات، المقاطع… “بصمة رقمية” قد تلاحق الطفل في مستقبله الدراسي والمهني. لا يدرك الأطفال واليافعون خطورة مشاركة بياناتهم الشخصية وصورهم وحياتهم الخاصة، فيصبحون في مرمى النيران والعواصف الرقمية التي تفتك بهم بطريقة ناعمة وجذابة.
5 – تلوّث الفكر والقيم (المحتوى الضار)
أضحى الأطفال ضحية الانكشاف على محتوى غير لائق (عنف، كراهية، إباحية) أو مضلل (نظريات مؤامرة، خطاب متطرف) بسهولة فائقة. تشكل هذه المحتويات قيم وأفكار الطفل والنشء اليافع في سنٍّ تكون فيها الشخصية قابلة للتشكل مثل الصلصال.
6 – تأثر الصحة الجسدية والنفسية
على المستوى الجسدي، يؤدي قلة النشاط البدني لدى الطفل والنشء اليافع إلى السمنة، مشاكل في النظر، آلام في الرقبة والظهر، تشوهات في وضعية العمود الفقري. وقد يصل الحد إلى حدوث تشنجات عصبية ودماغية تشبه نوبات الصرع.
أما على المستوى النفسي: يكمن الخطر في مقارنة النفس المستمرة بحياة الآخرين “المثالية” على وسائل التواصل، مما ينتج عنه تدني احترام الذات، والإصابة بالقلق والاكتئاب.
لا ننسى المخاطر التي تحدق بالأسرة، إن العاصفة الرقمية التي تجتاح عالمنا اليوم لا تقتحم شاشات أبنائنا فحسب، بل تتسلل إلى صميم حياتنا الأسرية، وتعيد تشكيل ديناميكيات البيت ورابطته. فقد تم اختراق الحصن الدافئ: تفككت المائدة العائلية فتحولت الموائد من دائرة حوار إلى جزر منعزلة، كل فرد منشغل بشاشته، والوجوه تتقابل لكن القلوب في عوالم متباعدة.
كما تم انزياح دور الوالدين: فالأبوان يصارعان منافسين أشداء: (المؤثرين، الألعاب الإلكترونية، وسائل الترفيه)، صوت الشاشة أصبح أعلى من صوت النصيحة الأبوية. أضف إلى ذلك تضخم الفجوة الرقمية بين الأجيال: فالآباء يشعرون بالعجز أمام تفوق أبنائهم التقني والأبناء يفقدون الثقة في توجيه آباء لا يفهمون عالمهم الرقمي.
والأدهى والأمر من ذلك أنه تم استلاب القدوة من الأب والأم لفائدة “المؤثرين” ومشاهير شبكات التواصل الاجتماعي، فضاعت القيم الأسرية لصالح قيم افتراضية مستوردة.
غداة يوم الطفولة.. أدوار جديدة للتنشئة
المواجهة ليست بمنع التكنولوجيا، فهي معطى حاضر لا مفر منه، بل بالتنشئة الرقمية الواعية التي تتحول من دور “الرقيب” إلى دور “المرشد”. إن التحديات الرقمية التي تواجه الأطفال اليوم هي امتداد لتحديات تربوية عرفها البشر، لكن بثوب جديد. فأضحى للتنشئة أدوارا جديدة:
1 – دور التوعية المستمرة (بدل المنع)
يوصى بالتحدث مع الطفل بصراحة عن المخاطر كما نفعل عند تعليمه عبور الشارع. فنشرح مفهوم الخصوصية، والتنمر، وكيفية التعرف على المحتوى الضار.
2 – دور بناء جسر من الثقة
ينصح بخلق بيئة آمنة يسرع فيها الطفل للإبلاغ عن أي مضايقة أو موقف مزعج دون خوف من اللوم أو العقاب. أن يكون المربي الصديق قبل أن يكون الشرطي.
3 – دور تعزيز الهوية الواقعية
ينبغي أيضا تشجيع الهوايات، الرياضة، القراءة، والأنشطة العائلية والخارجية. فتتم مساعدة الطفل على بناء ثقته بنفسه وإنجازاته في العالم الحقيقي.
4 – دور الرقابة الذكية (لا للقمع)
كما يتعين استخدام أدوات الرقابة الوالدية بحكمة، ليس للتجسس، بل لحماية الطفل في مراحل عمره المبكرة، مع شرح أسباب هذه القيود تدريجيًا. وينبغي الاتفاق على أوقات محددة لاستخدام الشاشات.
5 – دور القدوة الإيجابية
لا بد أن يرى الأطفال واليافعون والديهم يستخدمون التكنولوجيا بشكل متوازن ومعقول. لا يمكن أن نطلب من الطفل ترك هاتفه بينما الوالدان منشغلان بهاتفيهما تمامًا.
6 – تعليم التفكير النقدي
يجب أيضا تعليم الطفل والنشء اليافع كيف يميز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وكيف يتساءل عن مصدر المحتوى الذي يشاهده.
غداة يوم الطفولة.. أسيجة واقية من منارات الوحي المضيئة
يقدم لنا القرآن الكريم، بوصفه دستور حياة، رؤية متكاملة لمواجهة هذه المخاطر من خلال بناء شخصية الطفل بناءً متوازنا.
لا يعالج المنهج القرآني والنبوي الأعراض (المخاطر الرقمية) بل يهتم بالأصل (شخصية الطفل وقيمه). فهو يبني حصانة داخلية تحمي الطفل في أي فضاء كان.
بناء السياج الإيماني (الوقاية الداخلية)
ينبغي غرس هذه القواعد في نفس الطفل والنشء اليافع :
- تثبيت مراقبة الله تعالى: جاء في الآية و الحديث التاليين ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1) “اتق الله حيثما كنت” (رواه الترمذي ) ترسيخ أن الله يراقبنا في كل مكان، في العلن والخلوة، في العالمين الواقعي والافتراضي. هذه “الرقابة الذاتية” هي أقوى درع ضد التنمر والاستغلال ومشاهدة المحرمات.
- تربية الضمير الحي (التقوى): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (الأحزاب:70)، يوصى بتعليم الطفل أن يسدِّد ويقارب في كل أقواله وأفعاله، حتى في التعليقات والمشاركات الرقمية. “القول السديد” يشمل خطاب التواصل الاجتماعي، فيكون بعيدًا عن السب والشتم والتنمر.
- تعميق الاستشعار بالمسؤولية والأمانة: الوقت أمانة، والعقل أمانة، والطفرة الرقمية أمانة. يجب أن نربي الطفل على أن استخدامه للإنترنت هو جزء من تحمله لهذه الأمانة العظيمة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ (الأحزاب:72).
بناء السياج العقلي والقلبي (المناعة الفكرية والنفسية)
أما على مستوى العقل والقلب، فالدرع الحصين هو هذه الخطوات الجامعة المانعة:
- تعليم التفريق بين الحق والباطل: في زمن الفتن، نربي الطفل والنشء اليافع على التماس الحق من مصادره الأصلية (القرآن والسنة) وتنمية ملكة النقد عنده ليميز بين المحتوى النافع والضار.
- التحذير من اتباع الهوى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ (النازعات:40)، تُسقط الخوارزميات الطفل في دوامة المحتوى الذي يغذي هواه (ألعاب لا تنتهي، مقاطع غير لائقة). فالتربية على كبح الهوى وعدم الانسياق وراء كل ما يعرض يحمي من الإدمان الرقمي.
- غرس الثقة بالنفس من خلال علاقته بالله: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) الطفل الواثق من نفسه، الذي يشبع احتياجه للتقدير والحب في أسرته وفي عبادته، لا يبحث عنه بصفة قهرية في “الإعجابات” والتعليقات. تجعله طمأنينة القلب بالله أقل تأثرًا بالتأثيرات النفسية لوسائل التواصل الاجتماعي. او الأجدر أن تتم صناعة البيئة الآمنة من خلال مرافقة الأبناء فقد كان ﷺ يلاعب الأطفال ويداعبهم ويشاركهم في أنشطتهم مما يقوي أواصر الثقة ويحميهم من الانجراف مع التيارات الرقمية.
فبالتالي، يترسخ آداب التعامل المنهجي من خلال القول بالتي هي أحسن وعدم الإسراف في استخدام التقنية كما تتم التربية على الاعتدال في المأكل والمشرب والتذكير بأن الوقت هو رأس مال المرء في الحياة، وأنه سُيحاسب عليه.
قضاء الساعات في ما لا ينفع ندم يؤرق الإنسان عند الموت. فتأتي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر: “إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً” (رواه البخاري). ويبقى سلوك الوالدين خير معلم للأبناء في الاعتدال والتوازن. ويتم التدرج في التعليم من خلال استخدام التقنية بتدرج وحكمة.
ليست التربية حجابا عن العالم، بل تأهيلا لركوب بحره. ليست قيودا من حديد، بل أجنحة من نور تحلق بالولد فوق المغريات.
لنعد لأبنائنا: برادة الإيمان في قلب يروى بالذكر، فلا تظمأ نفسه لتصفح لا نهاية له، ميزان الحكمة في عقل يعرف الحق، فلا ينخدع ببراق الباطل، روح المسؤولية في ضمير يستشعر رقابة الخالق، فيحفظ اللحظات واللمحات.
لنكن كالغيث في زمن القحط، نروي بالسنة والقرآن أرواحا تيتمها العالم الافتراضي. فإذا استوقفتنا الهواجس: أين أطفالنا من هذه الفتنة؟ فلنذكر قول الرسول ﷺ: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله”.
صلاح القلب.. هو الحل
إننا لسنا أمام تحد تقني فقط، بل أمام امتحان رباني لقلوبنا الواعية. لنرفع أطفالنا بالقرآن والسنة، فيرفعهم الله في الدنيا والآخرة.
غداة يوم الطفولة.. مسؤولية مجتمعية مشتركة لا غنى عن تفعيلها
بينما تحتفي الأمم بيوم الطفولة، تطل مخاطر لم تعهدها الأجيال السابقة. إنها ليست معركة أسرية فحسب، بل معركة وجودية تتحمل فيها الدولة والمجتمع بدوريهما مهمة الحارس الأمين والموجه الحكيم.
لا بد من التوفر على رؤية شاملة للحماية الوطنية، ففي المجال التشريعي، يتعين تحديث القوانين لتواكب الجرائم الإلكترونية المستجدة وتشديد العقوبات على استغلال الأطفال رقمياً. أما في المجال التربوي، من اللازم دمج القيم الإسلامية في المناهج الرقمية وتعزيز الانتماء والهوية في المنتجات التقنية. وكذا في المجال الصحي، من الواجب دراسة تأثير الشاشات على صحة الأطفال النفسية والجسدية وإنشاء مراكز متخصصة للبحث في الآثار الاجتماعية للتقنية.
على الدولة أن تواجه العاصفة الرقمية من خلال:
1 – سن تشريعات رقمية واقية أولا من مثل:
- قوانين صارمة تحمي بيانات الأطفال وخصوصيتهم.
- ضوابط لعمل منصات التواصل بما يتوافق مع القيم والهوية الإسلامية.
- إنشاء هيئة رقمية مستقلة لمراقبة المحتوى الموجه للأطفال.
2 – بناء البنية التحتية الآمنة، فتعنى الدولة ب:
- تطوير منصات تعليمية وترفيهية عربية إسلامية آمنة.
- توفير برامج مراقبة أبوية مجانية للأسر.
- إنشاء شبكة إنترنت وطنية آمنة للمحتوى التعليمي.
3 – تعزيز الأمن الفكري الرقمي، فتعمل الدولة على:
- إدراج التربية الرقمية في المناهج الدراسية.
- تأهيل المعلمين للتعامل مع التحديات الرقمية.
- إنشاء مراكز إرشاد أسري للتعامل مع إدمان الأجهزة.
ثم، ينبغي إطلاق مشاريع وطنية مقترحة
1 – مشروع “المواطن الرقمي المسؤول ” يتضمن :
- حملات توعية وطنية عن المخاطر الرقمية.
- تدريب الأسر على أدوات الرقابة الوالدية.
- إطلاق قنوات تلفزيونية متخصصة في التوعية الرقمية.
2 – مبادرة “المنتج الرقمي الآمن ” تهدف إلى :
- دعم المطورين المحليين لإنتاج تطبيقات وألعاب هادفة.
- إنشاء حاضنات تقنية متخصصة في محتوى الأطفال.
- تمويل مشاريع الرسوم المتحركة الهادفة.
3 – برنامج “المرشد الرقمي”، فتسعى الدولة إلى:
- تدريب متخصصين في الصحة النفسية الرقمية.
- إنشاء عيادات متخصصة لعلاج إدمان الألعاب الإلكترونية.
- تطوير برامج تأهيل للمتأثرين سلباً بالعالم الرقمي.
إن حماية الطفولة في العصر الرقمي ليست ترفاً فكرياً، بل تفرض نفسها كواجب وطني وديني. إنها استثمار في مستقبل الأمة وحفظ لطاقتها البشرية. كما جاء في حديث السفينة “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة..”
يوم الطفولة في عصر الرقمنة لم يعد يوما للاحتفال فقط، بل هي دعوة للعمل واليقظة. المخاطر حقيقية ومحدقة، لكنها ليست قضاءً محتوماً. الطفولة ليست براءة سلبية، بل هي كيان يحتاج إلى حماية وتحصين. التنشئة السليمة اليوم هي التي تدمج بين منح الطفل أدوات العصر الرقمي، مع ترسيخ جذوره بقوة في تربة القيم والأمان الواقعي، ليكون طفلاً قادراً على السباحة في المحيط الرقمي، لا أن يغرق في أعماقه.




