“عند الله أنت غال ” – خديجة رابعة
إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في عظمته الاجتماعية وأسوتنا في أناقته الأخلاقية.
تأملت مداعبته وملاطفته لأصحابه ونظرت إلى عميق إحساسه بظروفهم، فازددت إعجابا به وحبا له بأبي هو و أمي.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من أهل البادية يدعى زاهرا، وكان يُهدي إلى النبي الهدية فيجهزه رسول الله إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
” إن زاهرا باديتُنا ونحن حاضروه”، وكان النبي يحبه وكان دميما، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال : أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه و سلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه، وجعل النبي يقول : ” من يشتري هذا العبد؟” فقال يا رسول الله إذا تجدني كاسدا، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ” لكنك عند الله لست بكاسد” أو قال: ” عند الله أنت غال”.( رواه ابن حبان في صحيحه)
ضرب صلى الله عليه وسلم أسمى الأمثلة لحسن المعشر والتواضع وخفض الجناح لصحابته، يمازحهم ويجلس معهم كواحد منهم، عن أبي هريرة قال :” كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب ولا يدري أيهم هو حتى يسأل ” ( رواه أبو داود في سننه)
كان ودودا لطيفا شديد الإحساس بهمومهم، كثير الاهتمام بدقائق أحوالهم.
وهذا جُليبيب رضي الله عنه رجل من صحابته الكرام، كان في وجهه دمامة، وكان فقيرا ويكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي ذات يوم فيما يرويه أنس رضي الله عنه :” يا جليبيب ألا تتزوج يا جليبيب ؟
فقال : يا رسول الله و من يزوجني يا رسول الله؟
فقال : أنا أزوجك يا جليبيب
فالتفت جليبيب إلى الرسول فقال : إذا تجدني كاسدا يا رسول الله، فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم:”غير أنك عند الله غير كاسد.” فزوجه رسول الله فتاة من الأنصار ولم تمض أيام على زواجه حتى خرج مع رسول الله في غزوة استشهد فيها رضي الله عنه.
فلما انتهى القتال، اجتمع الناس وبدأوا يتفقدون بعضهم بعضا، فسألهم النبي و قال : ” هل تفقدون من أحد؟ قالوا نعم يا رسول الله نفقد فلانا و فلان، فقال صلى الله عليه و سلم:” ولكنني أفقد جليبيبا، فقوموا نلتمس خبره “، ثم قاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال، فوجدوه شهيدا بجانبه سبعة من قتلى المشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” قتلتهم ثم قتلوك أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك،” فتربع جالسا بجانب الجسد، ثم حمله على ساعديه حتى حفروا قبره، قال أنس رضي الله عنه:” فمكثنا والله نحفر القبر وجليبيب ماله فراش غير ساعد النبي صلى الله عليه وسلم.”( رواه أبو يعلى في مسنده، وروي مختصرا في صحيح مسلم)
هاتان لقطتان مؤثرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابيين جليلين زاهر وجليبيب رضي الله عنهما.
كلاهما فقير، لا مال لهما…
لا يملكان شيئا من متاع الدنيا…
و لا جمال يزينهما…
لكن كليهما في نظر الرسول صلى الله عليه و سلم ” عند الله غال”٠
” عند الله أنت غال ” تبرز أن قيمة الإنسان ليس بما يملك من حطام زائل، أو يكنز من متاع فانٍ، بل قيمته فيما يحمل من قِيَم و مبادئ، و ما انطوت عليه سريرته من صدق وحب لهذا الدين.
” عند الله أنت غال” تصرف انتباهنا إلى أن أهم ما يجب الحرص عليه في هذه الدنيا هو مقامنا عند الله لا عند الناس. فرضا الله يسير بلوغه أما رضا الناس فغاية لا تدرك.
” عند الله أنت غال” تصحح معاييرنا التي نزِنُ بها الناس، هذه الأخيرة قد يصيبها التطفيف، بل قد تصيبها عدوى مما يروج في المجتمع من مقاييس زائفة، فنحتاج أن نقوِّمَ الناس بميزان الشرع لا ميزان الهوى.
” عند الله أنت غال ” توضح أن أساس نجاح أية دعوة إصلاحية هو الاهتمام بالإنسان قبل العمران.
ما كانت دعوات الأنبياء – وهم من هم المؤيدون من الله – لتنتصر وتنتشر دون تثمين للرأسمال الأهم في هذا الكون : الإنسان.
ما كانت جهودهم لتثمر، ولا لمسيرتهم أن تستمر لولا إشراكهم للشباب في همومهم الدعوية .
هذا ما كشفت عنه سيرة رسول الله مع الشباب، وما جلَّته بوضوح قصتا الصحابيين زاهر وجليبيب رضي الله عنهما.
إذا كان سيد المربين صلى الله عليه وسلم يمزح مع زاهر رضي الله عنه ، يضُمُّه و يُعَبِّر له عن حبه وحب الله له، فما الذي نتوقع من زاهر عندما يستشعر هذا الكم من الحب والتقدير؟
أكيد سيبادل رسول الله حبا بحب، وسيزيد تعلقه بهذا الدين الذي يعلي من شأنه ويحفظ كرامته.
وكيف سيحس جليبيب رضي الله عنه الفقير الذي لا أسرة له ولا مسكن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الزواج؟ ويعده أنه سيزوجه إحدى فتيات الأنصار، ويفي بوعده صلى الله عليه و سلم، ويجعل له بيتا يؤويه، وزوجا يسكن إليها، بل ويدعو رسول الله لزوجته الصالحة التي استجابت لطلب رسول الله واستيقنت أنه لن يضيعها، قال لها داعيا:” اللهم صُبَّ عليها الخير صبّا صبّا، ولا تجعل عيشها كدّا كدّا”، وقد كان فعلا.
لقد بادل جليبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عطفا بعطف، لقد استجاب لدعوى النفير وهو عريس لا زال في أيام عرسه الأولى، واستشهد في غزوته تلك .
” عند الله أنت غال” ترسم لنا المنهج الأمثل في التعامل مع الشباب، إنه منهج الاحتضان العاطفي والنأي عن محاكمتهم انطلاقا من المظهر، إنه تربية بالحب ، وتزكية بالاحتضان، إنه منهج فريد لتجسير العلاقة بيننا وبينهم، عسى أن تردم الهوة وتبعث الثقة بيننا من جديد.