عندما يصبح للجهل قيمة.. لماذا يجب أن تفخر بعدد الكتب غير المقروءة في مكتبتك؟
في لقاء معه، اصطحب دريدا محاورته إلى غرفة عمله وبها مكتبة ضخمة، وحينها سألته: هل قرأت كل هذا؟ كان دريدا مشغولًا، يمسك بكتابين يتذكر ما الذي جاء بكتب عن مصاصي الدماء إلى مكتبته، حتى يرد على المحاورة: لا، لم أقرأ كل هذه الكتب الموجودة هنا، فتغير المحاورة سؤالها: ولكنك قرأت معظمهم بالطبع! ليرد دريدا: لا، لا. قرأت ثلاثة أو أربعة، ولكني قرأتهم قراءة جيدة حقًا.
يذهب هواة القراءة للمكتبات عادة بدون خطة محددة للشراء، ويشترون بالنهاية كتبًا لم يكونوا على علم مسبق بوجودها؛ كتب مستعملة، كتاب عن موضوع تحدث عنه من قبل مع صديق، كتاب قديم رائحته كالفانيليا المعتقة؛ وفي النهاية لا يتمكن أحد من قراءة الكتب دفعة واحدة؛ قبل أن تسوقه قدماه ثانية لجمع بقية الكتب التي رآها في المرة السابقة ولم يكن معه أحد للعون على حملهم، حتى يشعر بالذنب أمام كل الكتب المكدسة في أنحاء الغرفة دون فتحها.
لكن لا داعي للشعور بالذنب المتفاقم باطراد مع حجم مكتبتك، فالكتب غير المقروءة ليست مؤشرًا على إخفاقاتك الفكرية، فهي على العكس تمامًا، وشعورنا بالذنب في غير محله. فإذا اعتقدنا في النظرية القائلة بأنه «يجب أن يكون فهم العارف كافيًا للشيء الذي يجب معرفته»، فكيف سيمكننا مواجهة هذه المعرفة المجهولة واللامحدودة، وكيف سنواجه عدم ملاءمتنا وقدرتنا على الإلمام بها؟
مكتبة أمبرتو والعوالم المتخيلة
قد يطمئنك أكثر التعرف إلى رأي نسيم نجيب طالب، الكاتب الأدبي، وباحث الإبستمولوجي، والأكاديمي المتخصص في أمور المعرفة وعلاقتها بالعشوائية، والذي صدر له كتاب بعنوان: «البجعة السوداء: التأثير الذي لا يمكن تحمله»، وكان كتابه هو الأعلى مبيعًا على قائمة «نيويورك تايمز» لعام 2007، وسجل فيه مناقشته مع المؤلف والباحث أمبرتو إيكو، والذي تضم مكتبته الشخصية 30 ألف كتاب.
يحكي نسيم عن مكتبة إيكو، وكيف يمكن لزوار المنزل أن يتعجبوا من حجم المكتبة، ويفترضوا أنها تمثل حجم معرفة إيكو، وهذا خطأ. فالزائر القارئ الهاوي سيدرك الحقيقة فورًا، فمكتبة إيكو ليست ضخمة لأنه قرأ الكثير، ولكنها ضخمة لأنه لديه الكثير مما يريد قراءته.
وقد صرح إيكو لنسيم، أنه وبعد إجراء عملية حسابية سريعة، وجد أنه لا يستطيع أن يقرأ سوى 25200 كتاب، إذا استطاع قراءة كتاب واحد في اليوم بشكل يومي، منذ وأن كان في العاشرة وحتى سن الثمانين، وهذا قدر تافه -بحسب إيكو- إذا قورن بمكتبة بها مليون كتاب جيد، كما أنه أمر مستحيل من الأساس.
الروائي الإيطالي إيكو في مكتبته الشخصية
من مقابلته لإيكو خرج نسيم باستنتاج، وهو أن الكتب المقروءة أقل قيمة بكثير من غير المقروءة، فيجب أن تحتوي مكتبتك الخاصة على الكثير مما لا تعرفه، فإذا كنت مهتمًا بالفلسفة عليك اقتناء كتب عن الاقتصاد، وإذا كنت محبًا للعلوم عليك اقتناء روايات وكتب في النقد الأدبي، وإذا كنت متخصصًا في الأدب الإنجليزي الكلاسيكي، فعليك اقتناء الروايات الأمريكية السريعة.
بالوقت ستتراكم الكتب حولك، وتتراكم المعرفة التي تنتظرك مع تقدمك في العمر، سترى كتبك غير المقروءة على الأرفف تحدق بك؛ وفي الواقع، كلما عرفت أكثر كلما كبرت صفوف الكتب غير المقروءة من حولك.
وبالنظر فيما كتبه إيكو، نجد أنه قد تطرق للعلاقة الإنسانية الغريبة بين المعروف والمجهول في كتابه، موسوعة عن الأراضي الوهمية، وعد التوتر الذي يصيبنا جراء كثرة غير المعروف، أحد أعراض ميلنا القهري لملء فجوات فهمنا بالأهداف الملموسة للمعرفة، حتى إن لم تكن ملموسة وكان علينا أن نخترعها بقوة خيالنا.
التسوندوكو: فن الكتب المتراكمة
في مقاله بصحيفة «نيويورك تايمز» يشرح كيفن ميمز مصطلح «التسوندوكو»، وهو مصطلح ياباني قديم يصف الكتب المتروكة بإهمال على الأرفف ولم يقرأها أحد، كما أنه يصف هذا الشخص الذي يكدس كتبًا دون قراءتها. يعود الاستخدام الأول لهذا المصطلح إلى القرن التاسع عشر للإشارة للمعلمين الذين يمتلكون الكتب لكن لا يقرؤونها، مقابل الطالب الذي يتوق إلى ورقة ملقاة يقرؤها، وبطبيعة الموقف كان هذا المصطلح وصمة عار في الثقافة اليابانية، لكنه لم يعد كذلك، مع التأكيد على أن جمع الكتب المقصودة هنا، تقبع في خانة ضمان القراءة لمالانهاية، لا وسواس جمع الكتب من أجل التباهي والتخزين، المعروف بـ«الببلومانيا».