على رأس المائة.. أنوال؛ مَـفخَرةُ معارِكِ مغربِ القرن العشرين – عدنان بن صالح
بموجِب أوفاق 1904 بين فرنسا وإسبانيا؛ شرعنت هته الأخيرة لنفسها احتلال الشمال المغربي، معزِّزةً مَوقِعها على طول الشريط المتوسِّطي للمغرب، بعدَ أنْ استحوذَتْ على أجزاء مِن تُـرابِه منذ 1668، وتَسلَّلت إلى أجزاءه الأخرى أواخر القرن التاسع عشَر، ومنذ ذلكَ الحين اندلعت مقاوَمَات عديدة ضِدّ الاستعمار الإسباني _ المبكِّر _ في ظِل ضعف السلطة المركزية وتراجُع مقدرات “المخزن” عن التصدِّي للمستعمِر، أطْلَق عليها الأستاذ علال الفاسي في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، ص: 116″، حالات “الدّفاع الإقليمي” الذي ستشهده مناطق الريف والأطلس المتوسّط والأطلس الكبير والجنوب الشرقي والصحراء.
تُشكِّل “أنوال”، الامتـداد الطَّـردَي لمعاركة “سيدي ورياش” سنة 1894، ومعارك المجاهِد “محمد أمزيان” فيما بين 1909 – 1912، التي ناهزت المائة، استُشهِدَ في إحداها وهي معركة “تكرمين”، لتستمرَّ المقاومة تالِيا مع القاضي الوالِد “عبد الكريم الخطابي” الذي أيِسَ من وُعودِ السلطات الإسبانية بتحديث وتطوير المنطقة، فثارَ ضدّ الغزاة، مُتِمًّا سِلسلة الجهاد، إلى أنْ ارْتَقَى شهيداً في معركة “تافْريست” سنة 1920. فتسنَّم قيادة الثورة الولَد النجيب، خرِّيج القَرويين وصاحِب السيرة الحسنة في بني قومه، والخبير بمواطن قوة وضُعف الطَّرَف الـمُستعمِر؛ الرجل الذي سيدخل التاريخ المغاربي والعربي من بابِ الانتقال من القبيلة إلى الوطن، ومن ضَيقِ الاستِعمار إلى رحابة الانتصار في أكثرِ من معركة، لعلّ أبرَزها وأخْلَدها معركة أنوال التي جَرَت وقائعها يوم الجمعة 23 ذي القِـعدة 1340 الموافِـق لـ 21 يوليوز 1921، إنه الأمير “محمد بن عبد الكريم الخطابي” سليل الأسرة الخطابية المجاهِدة، وجُزء من سِلسلة المعارِك اللاهِبة ضدّ الاستعمار في القرن العشرين.
أدَبِـيات حرب التحرير الريفية مكتوبة بمختلف لغات الدنيا، ويُحْتفى بها وطنيا ومحليا ومغاربيا، إلّا أنَّ مَعركة أنوال الشهيرة تُعَدُّ بِحقٍّ مَدْرَسَة متفرِّدة في التَّضحية والكفاح والبُطولة، وصَفحة مكتوبة بمداد البطولة والشّهامة، أبانَت لِـمن عاشوا وَقائعها، وأولئك الذين وصَلَتهم أصداءها، ونحن الذين قرأنا عنها؛ أنَّ الاستعمار نَـمِرٌ مِن وَرق، حينما يكون الشعب سيد قراره، على رأسه زعيم صادِقٌ مِقْدامٌ ذَكي، بمشروع وطني واضح، تتجسّدُ فيه تكاملية فريدة بَين العروبة والإسلام، بين الوطن والوطنية، بين المحلي والوطني، بين الأمازيغي والعربي، وأنَّ الإرادة الـجماعية الصادقة تصنع الـمعجِزات.
ما بين نهر أمقران وجبل غرغيز، اتّسَعت رُقعة مناصِري الأمير ابن عبد الكريم، وشاعَ صِيتُه قائداً مجاهِداً اجتمعَت عليه الكلمة، وتوحّدت تحت رايته الجهادية قبائل الريف وجبالة وغمارة _ وإنْ كانت قبائل جبالة (متيوة البحر، بني سميح، بني رزين، بني بوزرا، بني منصور، بني خالد..) انضمّت بشكل كامِلٍ إلى الحركة الخطابية ثلاثَة أيامٍ بَعد انتصار الأمير في أنوال، بفضل نشاط القائد المجيد أحمد الحزمري احريرو، وقادة آخرين غيّبهم التاريخ الرسمي (الهاشمي الحساني، محمد كرطيطو، القايد سلّام، اليزيد بن صالح، محمد بن عمر حميش) _، التي دَخَل بـها في عَصْراً جَديداً بروحٍ وخَطْوٍ جَديد متسلِّحٍ بالثّـوابت التي يحتضِنُها المجتمع والمقوِّمات التي تحيا مِن أجْلِها الأمة المغربية، فَـنصَّبَــتْهُ فِراسة الشَّعب زعيمًا سنة 1921، فخاضَا معًا _ الأمير والقبائل _ مَعارك صغرى طُرِد إثرها الإسبان من موقِعي (أبرّان) و(اغْـريبَن) شرقيْ الحسيمة، كانت مقدِّمةَ الانتصار في معركة أنوال الكبرى، الفاصلة في تاريخ النّزال العسكري بين قوات الاحتلال التي تكبّدت خسائر مالية ولوجيسية وعددا من الجنود قُدِّرَ بحوالي (19.000) بين أسير وقَتيل وجريح، وانعكاسات سياسية حادّة في الداخل الإسباني، فيما صارَ جيش التّحرير الريفي رَمْزًا للتَّحَدِّي والانتصار.
أتَى محمد بن عبد الكريم الخطابي على قَدَر، في ظرفية زمنية دقيقة عنوانها شُيُـوع الرّوح الانهزامية وطغيان القَبَلية المتفرّقة ووجود استعمار على الأرض، ومِن قَلْبِ زَمَنِ “الانهيار” جاء الخطابي مبشّرا بالنّهوض ومُحقِّقاً الانتصار، ومُرْتَفِعاً بالفِكر والتَّفكير السياسي المغربي ورُوح الاجتماع المدني بتعبير “غوستاف لوبون” مِن مستوى القَبيلة إلى أفُق الوطن، مُتَلافِياً خَلْقَ الأعداء الإضافيين وتَعَدُّد الجبهات، وجاعِلاً مِنَ الشَّمال المغربي مَقبرة الجنود الإسبان والجنرالات الكبار أمثال (سِلفستري) و(نافارو).
لقد أَعْطَت مَوقعة أنوال بُعْدًا دوليا ومغاربيا لحركة التّحرير الخطابية، استثمره الخطابي لصالح تعزيز المقاومة، بِــنْــيَاتٍ ومؤسَّسات وقبائل ووسائل، ودَفَعَه لِسَنّ إستراتيجية المقاومة الموسَّعَة جغرافيا وقبائليا، واعتماد إصلاحات في أوساط القبائل لتقوية الجبهة الدّاخلية، وإقامة إدارة ممركَزة في أجدير، واستِكمال مَعارك التَّحرير ضدّ العَدُو، وبناء جُسور الاستفادة البراغماتية مع فرنسا في المغرب والجزائر، حيث تمكّن مِن شراء الأسلحة، وتزويد المجاهدين بالـمُؤَن وإدخال المواد المختلِفة للبوادي والقبائل.
لَـم يَكن لهذا الانتصار الكبير أنْ يدفع المجاهدين للركون إلى لذّتِه، ولا الانتشاءِ بـهِ، كَونه لم يَكن في تَقديرهم سَوى لِبنة جديدة في صَرْحِ الـمقاومة، يَنْضافُ لسجلِّ الانتصارات الـعديدة التي خِيِضَت على تلك الأرض منذ مَطالع القرن العشرين..، إنه انتِصارٌ ضخَّ دماءَ الكرامة والشهامة في عروق القَبائل والـمكافِحين والمغاربة الأحـرار، الذين رَأَوا فيه جُرعةً إيجابية لاستِئناف الكفاح الـمُسلَّح في الأطلس المتوسّط والصحراء وتافيلالت، ورأت فيه الـحركة الـخطّابية فُرصةً؛ يجب استِثمارُها، وذلك ما كان، حيثُ واصل الأمير ابن عبد الكريم كفاحه الـمَرير ضدّ الاحتلال الإسباني إلى متَمِّ سنة 1924، ثمّ ضدّ الاحتلال الفَرنْسي لاحِقاً (13 أبريل 1925)، والذي انتهى بشنِّ تحالُف عَسكري غاشِم ضد الحركة الخطابية، وخَوْضٍ حربٍ غير متكافئة، اضطرَّت الأمير للاستِسلام حَقْناً للدماء.
ومع ذلك؛ فإنّ معركة أنوال، وسياقاتها السابقة عليها، وتأثيراتها الإيجابية اللاحقة، وأصداءُها الدولية والوطنية، ستظلَّ مَفْـخَرةً تُباهِي بنا ونُباهي بها، لأنّ أنوال أكبر من مجرّد معركة؛ إنها طريق التّحرير، نهجٌ في الانتقال من القبائلية العشائرية المُشرذَمَة إلى التحالفية القبائلية الـموحّدة على أرضية مشروع التحرير، درْسٌ من دروس القيادة الديمقراطية ذات المصداقية والمشروعية.. أنوال صفحة ناصعة في جدار بطولات أجدادنا، وكل عامٍ وهْي خالدة فينا، وأميرها قائد متجدّد الحضور في ضمائرنا، وكل عامٍ ونحن مغاربة أحرار، محبّين للحرية والتحرر، محافظين على استقلال الوطن، أوفياء لمحطّاتٍ مُضيئات في تاريخنا، حماةً لذاكرتنا الوطنية الـمُشتَركة، وأكثر بُروروا برموزنا وقادتنا ومناضلينا.