علمنا الدكتور عبد الفتاح فهدي رحمه الله (9) – الحبيب عكي

معنى الانفتاح والتعاون والتضامن

1- الانفتاح:

كان من منطق الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه الله، أن الجمعية المدنية الناجحة لابد لها من بعض الخصائص والمواصفات التي تجعل منها جمعية منفتحة متشاركة، متعاونة ومتضامنة. وأما الانفتاح وإن كان يبدو قدر الجمعية المدنية، بدء بما تضعه من ملفها القانوني عند السلطات وبعض الهيئات والمؤسسات التي ترجو منها بعض المساعدة والافادة، ثانيا، بما تنفتح به على ساكنة حيها وفئاتها الاجتماعية المستهدفة من برامج وأنشطة خاصة أو مفتوحة، ثالثا، على واقعها وبيئتها، وأحداثها ومشاكلها ذات الصلة باهتماماتها، إلى الانفتاح على الفاعلين الاجتماعيين والمكونين الجمعويين..، إلى أنسب وسائل وأشكال العمل والتواصل العام داخل هياكل الجمعية وخارجها.

لكن يبقى الانفتاح مجرد وسيلة لخلق اللازم من الحوار والتواصل مع السلطات مثلا، خاصة عندما لا تتفهم برنامج عمل فترفضه أو تنظيم نشاط فتمنعه أو تعرقله، حوار وتواصل مع الساكنة للوقوف على حاجياتها ومطالبها وتعبئة المستعدين من المتطوعين من أبنائها، للتعاون على مشروع يخدم المصلحة العامة للمنطقة، وكل هذا يتطلب قدرا من الثقة في الجمعية وأبنائها وبرامجها، بل وحماية هذه الثقة ورعايتها وتنميتها بالأنسب من وسائل العمل والتواصل الدائم والفعال بمعنى الانفتاح، انفتاح لا يتجسد بالأساس إلا على مدى مروءة الجمعية ومصداقية عطائها، وما تحرص عليه وتضعه من ملفاتها عند بعض الهيئات، وتنشره من تقارير أعمالها، وتوجهه من دعوات لحضور أنشطتها وأيامها المحورية أو المفتوحة، وبما تعلقه من لافتات وإعلانات أو تفتحه من مواقع وصفحات..، مما يجعل أنشطتها معروفة وتحظى بما تحظى به من اقبال وقبول حتى خارج حيز اشتغالها.

2- التعاون:

أما التعاون كخطوة ثانية بعد الانفتاح، فإنه بدوره أيضا يتخذ أشكالا متعددة وأبعادا مختلفة حسب الهيئات والمؤسسات والجمعيات والفاعلين المتعاونين..، وخيره وأفضله وأجداه وأنفعه ما يكون على شكل “شراكة” واضحة الأهداف والغايات والبرامج والمؤشرات، والحقوق والواجبات، بدفتر تحملات مشترك وببعد تعاوني في مجال من مجالات الاهتمامات المشتركة، ولصالح فئة من الفئات المحددة، ولعلاج إشكال من الإشكالات. لقد كان رأي الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه الله، أنه يكفي العمل الجمعوي شرفا أن يأتي بالأفكار ويعد المشاريع كقوة اقتراحية، ولكن مسألة تمويلها ينبغي أن يقوم بها غيره من الفاعلين والشركاء وفق دفاتر تحملات واضحة ومنصفة بين جميع الأطراف.

وعلى هذا سارت الجمعية، فأعدت العديد من المشاريع، بدء من مشاريع ضبط وتنمية عملها الداخلي، إلى مشاريع تربوية وثقافية وتنموية، خاصة لصالح فئات الأطفال والشباب والفتيات والنساء، كان من حظهم وحظنا أن استجابت لعقد الشراكة بشأنها – مشكورة – بعض  المؤسسات والمديريات والجماعات بل وبعض الوزارات، مما كان له بالغ الأثر والعائد التربوي والتنموي على الفئات المستهدفة، فنالت حظها من سينما تربوية، محو الأمية، دعم وتقوية، كفالة اليتيم، تربية والدية، مخيمات صيفية، مهرجانات الطفولة وملتقيات الشباب، تداريب ومنتديات ودورات تكوينية، محفل الألعاب…، وكلها من مشاريع الجمعية التي رات النور على أرض الواقع.

ولكن، وجدنا صعوبة في الاستمرار في هذا المسار لأمرين اثنين أولهما: خشية أن يتحول مشروعنا من مشروع الثقافة إلى ثقافة المشرع، وثانيهما: لما حل بهذا الاختيار التشاركي عامة من اختلالات  وتعقيدات وريع و ولاءات سياسوية حرمت وتحرم العديد من الجمعيات الجادة من حقها المشروع في خدمة وتأطير المواطنين، وقلصت وتقلص واجبها في الاسهام المتاح في تنمية البلاد  وتعبئة الرأسمال الوطني وربما الدولي لخدمة العباد.

3- التضامن:

أما التضامن، فموجباته لا تعد ولا تحصى، أحداث محلية، وطنية، ودولية لا تنتهي، وفي كل يوم تنطق فداحتها وفظاعتها حتى الموتى، فكيف بالفاعلين الجمعويينالأحياء؟ حراكات وطنية هنا وهناك في شأن من الشؤون الاجتماعية والسياسية وغيرها، فمن يخلق بصددها رأيا عاما إذا صمت الفاعلون حتى يفعل بهم وبغيرهم وهم الفاعلون؟ قضايا الأمة والإمعان في استدامة التوترات والصراعات والحروب المدمرة في مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي.

كيف يكون المرء مسلما إذا لم يهتم بأمر إخوانه المسلمين وكل المستضعفين عبر العالم؟ ناهيك فقط، عن معاناة جمعيات المجتمع المدني ذاتها، مما قد يتعرض له بعضها من الشطط في استعمال السلطة، أو من حرمانها من حقها المشروع في المنح والشراكات أو فقط، في ممارسة نشاط من أنشطتها، ناهيك عن تطلعها وطموحها في الانتظام في نسيج من الأنسجة الوطنية أو اتحاد من الاتحادات الجمعوية الموضوعاتية، لا يرى النور لضعف وغياب التضامن بين الجمعيات، وأحيانا حتى على إصدار بيان عام بشأن قصية تهم الجميع؟

وهذا ما حاولت الجمعية تفاديه والتخفيف من حدته، بحضورها في جل المبادرات التضامنية التي تستدعى إليها، أو أخذها هي نفسها المبادرة بشأن ذلك، خاصة عند أحداث جسام كالفيضان.. الزلزال.. المخيم.. الشطط..، تطرح أرضية بيان أو مشروع تضامن، ثم تعرضه للإنضاج والتوقيع والتعاون على من ترغب ومن تجرأ من الجمعيات.

وهكذا نرى طبيعة العمل الجمعوي، لا يكفي أن تهتم فيه بتخصصك وخاصة نفسك فقط، بل لا بد أن تخدم هذا التخصص من جميع الواجهات المساعدة وتدخل إليه من جميع المداخل اللازمة والمتاحة، القانونية منها والتشريعية والحقوقية أيضا، قبل الواجهات التربوية والثقافية والإدارية المعتادة، فالأبواب الثانية لا تفيد إلا بالأولى، ولا خير في الأولى إذا لم تبدع الثانية وتستفيد من عطائها وتملك مفاتحها.

4 – خلاصات:

هذه ليست وسائل عمل عادية، فالانفتاح والتعاون والتضامن، عند فضاء الفتح للتربية والتنمية، ليست وسائل عمل عادية وطبيعية ومنتشرة عند الجميع، بل لها عندنا فلسفة تنموية وطنية وأبعاد قيمية وأخلاقية، قد لا يستوعبها الجميع وبالطبع لا يعمل بها لا في أدنى المستويات ولا في أعلاها، وما أحوجنا اليوم إلى استيعابها والنظر في فحواها لا كفاعلين جمعويين فقط، بل أيضا كمؤسسات وطنية تتغياالاسهام في الإصلاح والتنمية والنهوض.

فلصالح من لا زال الاختيار النهضوي والنموذج التنموي للعديد من الدول العربية يتأرجح بين كل النماذج التقليدية والتبعية وغيرها مما هب ودب إلا مقاربة الاشراك الحقيقي والفعال للساكنة وممثليها الذين طالما يقيدون بوصاية المعينين؟ ولصالح من يستمر هدر الطاقات التطوعية للشعوب وهي حجر الزاوية في كل إصلاح وتنمية ونهضة، وكل الشعوب المحررة لها والراعية لها زودتها بملايين أيام العمل، وملايين إنجاز المشاريع، وأداء خدمات القرب ومساعدة الفئات الهشة والترافع عن حقوقها، وهو صلب العمل المدني في كل العالم.

وهنا يتحدث ضجيج الأرقام مثلا عن التطوع عندنا وعندهم، فأمريكا مثلا تسجل 94 مليون متطوع سنويا بمعدل 33 % من السكان ويقومون بما يقوم به 9 ملايين موظفا، وفي كندا أيضا 175.000 جمعية مدنية، يساهم فيها 22 مليون كندي من بين 34 مليون الذي هو عدد سكانها يعني ما يقارب نسبة 91% من السكان، وفي بريطانيا: (350 ألف) جمعية خيرية بلغ عدد المتطوعين فيها سنوات مضت إلى 20 مليون متطوعا. وفي فرنسا فيها (600 ألف) جمعية خيرية، وهناك منظمة بيئية عالمية لها فروع في 26 دولة ويبلغ عدد الناشطين فيها حوالي 5 ملايين.

ترى كم هو عدد المتطوعين من بيننا وبماذا يقومون حتى نعرقلهم، وأعتى أعتى جمعياتنا لا تكاد تجمع عشرات من المتطوعين لأعمالها الجبارة؟ جمعية نذرت نفسها للتعريف بالإسلام بين أبناء الجالية فلم تجد أكثر من 36 فردا متطوعا من متعددي اللسان، ألمثل هذا ينبغي أن نضيف التعقيد والعرقلة؟

لا خيار إذن، ولا قرار ولا مسار..، إلا بإسهام الفعل المدني إلى جانب غيره من الإسهامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية..، فهو المؤسس الثقافي لها والمواكب النقدي لها والمقيم الحقيقي لإنجازها وعدالتها، ولكن صلب الفعل المدني هي هذه الثلاثية الفضائية المتماسكة: “الانفتاح” لأنه يقلص التوجس ويعزز الثقة والتعاون بين الفاعلين، كل من مكانه وبإمكانه في بلد يسع الجميع ويحتاج إلى مجهود الجميع، والتعاون على الخير والعطاء كما تقتضي ذلك مصالح البلاد وقضايا العباد وهي أكبر من طاقة الأفراد والجماعات والمؤسسات حتى، بالإضافة إلى فضيلة التعاون التي يدخل فعل التضامن في صميمها، وينبغي أن يطال عطاؤه وتماسكه كل الفئات ويشمل كل المجالات، داخل وخارج أرض الوطن. وكما يقول علماء الاجتماع، فذلك هو السبيل الأمثل لتقوية الرابط الاجتماعي وتعزيز التماسك الاجتماعي (محرك النهوض) وهو السبيل الأمثل أيضا، لحصر مستوى اليأس والانحراف والاغتراب (علة كل الشرور والخيبات).

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى