علمنا الدكتور عبد الفتاح فهدي رحمه الله (6) – الحبيب عكي

رفض الشطط في استعمال السلطة

لا ندري إلى متى ولصالح من تستمر هذه الوضعية الغريبة والمتناقضة للعمل الجمعوي في المغرب، بين الخطاب الرسمي الدستوري القانوني المرحب به والداعي إليه والمشجع عليه كفاعل مدني وشريك تنموي ومتطوع خدماتي ومبادر ترافعي في كل المجالات ولصالح  كل الفئات، وبين الممارسات الميدانية لبعض السلطات التي لازالت – مع الأسف – تتوجس منه وتضيق عليه بما اعتادته ضده وضد فاعليه من شططها في استعمال السلطة وغطرستها في هضم الحقوق، ضاربة بعرض الحائط كل مصداقية المؤسسات وقانونيتها والمطلوب منها من حكامة تفاوضية جيدة وحسن ارتفاق المواطن وإيفائه حقه الدستوري في الممارسة الجمعوية والعدالة الإدارية والديمقراطية التشاركية.

مظاهر الشطط في الواقع الجمعوي متعددة، تنهجها بعض السلطات ضد بعض الجمعيات القانونية (حساسيات ومرجعيات) في بعض المناطق أو بعض المناسبات، لتمنع أو توقف بعض برامجها وأنشطتها أو فقط تعرقلها وتشوش عليها وعلى أصحابها، فقط بتوجس مجاني أو مزاج فاسد وتصفية حسابات وهمية عبر خرطوشات من الشطط الصارخ أو الصامت من قبيل: فرض الترخيص على أنشطة الجمعية بدل مجرد الإشعار، وعدم الترخيص لها رغم وضع الطلب، عدم منح وصولات الإيداع عند التأسيس أو حتى مجرد التجديد ولو لنفس أعضاء المكتب السابق، الحرمان من استعمال القاعات العمومية، منعها من المنح والشراكات خاصة ما كان منها من بعض القطاعات الحكومية، عدم تبرير أي منع لا كتابيا ولا حتى شفويا، والغريب أن وضع الشطط هذا يبقى عاما ومقلقا لا تجدي فيه سلطة خاصة ولا سلم إداري، مما يجعل الفاعلين المدنيين أحيانا، هم أكبر ضحايا الشطط والإذلال والمهانة، لأنهم صدقوا نداءات التضحية والمواطنة، وبعض رجال السلطة يوزعون صكوكها على فلان دون علان.

ومما علمنا الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه الله، وإخوانه، بل مارسوه معنا في هذا الفضاء الرائد وفي غير ما مرة وغير ما فرع، هو: “ألا نخاف ولا نطمع ولا نستسلم أمام إرادة شطط أو تعليمات تعسف غير قانوني وليكن ممن كان”.

أولا، لأنه شطط غير قانوني.

ثانيا، لأنه طعن في مصداقية الإدارة ودورها المحايد.

ثالثا، لأنه ضرب مفضوح في المصلحة العامة للبلاد والعباد وقضاء أغراضهم.

رابعا، لأنه ضرر بالعمل الجمعوي وهو حق مشروع وليس منا ولا صدقة.

خامسا، لأنه شيء غير معمم على جميع الجمعيات ولا في جميع المناطق، فخلال الحملة الانتخابية وخلال الحجر الصحي لوباء “كورونا” مثلا، كانت تمنع جمعيات من تدخلاتها وخدماتها الاجتماعية من طرف السلطة بداعي الطوارىء، في حين أن جمعيات أخريات توزعها حتى في أعلى الأعالي وبالشاحنات والقوافل. وفي غير ما مناسبة، كانت تمنح القاعات العمومية لجمعيات تقيم فيها أنشطتها، في حين تحرم من ذلك أخرى، ولاعتبار أو آخر قد تقبل جهة أو أخرى بذلك، ولكن من سابع المستحيلات أن يقبل به المجتمع المدني وإلا فعليه السلام.

هذا، وعلى الرغم من أن جمعيتنا فضاء الفتح للتربية والتنمية (e.f.e.d) كانت علاقتها بمختلف الهيئات والسلطات على العموم وعلى الدوام جيدة وممتازة، تواصلية وتعاونية وتشاركية في بعض الأنشطة الوطنية ذات الاهتمام المشترك كالمخيمات الصيفية ومحو الأمية وكرنفال المسيرة..

إلا أنها قد مرت عليها فترة عانت من شطط بعض رجال السلطة ما عانت خاصة في المكتب المركزي، حيث منعت دون موجب حق من طرف أحد عمال الإقليم – غفر الله لنا وله – من تراخيص الأنشطة الإشعاعية وعدم قبول إشعاراتها، من تراخيص القاعة الكبرى وغيرها من القاعات العمومية، من تعليق اللافتات الإشهارية في المدينة، من الأسابيع الثقافية والمهرجانات المعتادة للجمعية على مر السنين حتى المهرجان الوطني للطفولة والمنتدى الوطني لقضايا الطفولة..، لا لشيء إلا أنه قد خرج من أبناء الجمعية – على ما نظن – مرشحان عصاميان وبمبادرة منهما دون دخل الجمعية، أحدهما في الانتخابات الجماعية مقبول، والآخر في الانتخابات البرلمانية مغضوب عليه.

نجح المرشحان على كل حال ولكن الجمعية بقيت تتابعها تهمة ممارسة السياسة بغطاء ثقافي، وهذا في نظر المتسلطين جريمة موجبة لحرمان الجمعية من حقوقها المشروعة، مما اضطرنا أن نخوض ضد كل هذا الشطط معركة صحفية إعلامية شرسة من أجل الحقوق المدنية والحريات العامة. ربحناها بالطبع ولو بعد رحيل ذلك المسؤول، بل وربحها المجتمع المدني في المنطقة إلى حين. وتمضي الأيام وتصبح مشاركة الفاعل المدني في الانتخابات سلعة رائجة بل مطلوبة حتى من الدولة نفسها، للاستثمار في تجارب ومؤهلات هذا الفاعل اليقظ والواعي، فهو على الأقل أحسن من جيش المرشحين الأميين، لا مالا يبقون ولا تنمية يحققون.

هذا الشطط في استعمال السلطة أو الإساءة في استعمال صلاحية وحق خاص من طرف رجل السلطة، مهما كانت مصادره ودواعيه ومبرراته وكيفياته فهو على كل حال يلحق الضرر بحقوق الآخرين وأنشطة الجمعيات، والمسألة في عمقها- كما يرى الكثيرون – ليست عفوية ولا مزاجية كما تبدو، بل لها روافد إيديولوجية.. هاجسية.. أمنية.. ضبطية.. تسلطية.. تقديرية.. وهمية..، ولكنها، لا تخدم لا في الأول ولا في الأخير مصلحة أي طرف فبالأحرى المصلحة العامة للبلاد والعباد.

إنها تعود في الأساس إلى فلسفة الدوامة والمتاهة وأسئلتها البنيوية الخفية: هل العمل الجمعوي حق مشروع لعموم المواطنين أم امتياز لبعضهم فقط؟ هل العمل الجمعوي مع أو ضد، ومع من وضد من؟ هل هو حر مستقل أو مجرد تابع؟ هل من حق السياسي أو السلطوي أن يتحكم في الثقافي ويستتبعه لصالحه وقراره الذي يستفرد به؟هل المنح والشراكات والقاعات في هذا العمل حق مشاع أم مجرد ريع يمنحه من لا يملك لمن لا يستحق؟ إلى غير ذلك من الإشكالات الحقيقية والمعرقلة والتي ينبغي على الجميع القطع معها ميدانيا كما قطع معها الدستور الجديد (2011) نظريا، فأقر بأحقية العمل الجمعوي، ورفعه إلى درجة الشريك التنموي للدولة ومؤسساتها، ونادى بحياد السلطات العمومية، وجمع بينها وبين غيرها من التمثيليات النيابية والمدنية والتعيينية في إطار الديمقراطية التشاركية التدبيرية التفاوضية، وأوجب التعاون بين جميع الأطراف كل من مكانه وبإمكانه بدل القرار المركزي والفرجة المحلية.

إن أي جمعية، مهما كانت حيويتها وقوة نشاطها وعطائها،لاتقارن بأية سلطة مهما كانت بسيطة ولا بأية مؤسسة عمومية مهما كانت خدماتها متواضعة، الفاعل المدني لا يريد لأي مسؤول مهما اختلف معه في وجهات النظر وأسلوب التدبير، لا يريد له أي شيء من تلك العقوبات الزجرية الواردة قانونيا في حق المتسلطين الشططيين، من مساءلة ومراسلة.. من توقيف وعزل.. من تراجع في الرتبة وتأخر في الترقية.. إلى الإعفاء النهائي من الوظيفة العمومية، لا يريد إحراجه بالقيام بوقفات واحتجاجات أمام الإدارة.. ولا طرق أبواب المحاكم الإدارية ضده.. ولا التبليغ عبر المفوض القضائي.. ولا تدبيج شكايات صحفية وتقارير موازية يرفعها إلى من ينتشي بها من المنظمات الحقوقية وهي تسيء إلى سمعة البلاد وتضر بمصالحها..

لا نريد الانزلاق من هدف ممارسة الثقافة والتنمية إلى صراع التجاذب المجاني مع أي كان..، كل هذه الأشياء عندنا إلى 90 %تجدها معطلة رغم كل التجاوزات، وذلك لخلق المغاربة الطيبين، فقد يقدمون في عراكهم على كل شيء إلا مساس المرء في كسرة خبزه (وظيفته ورزق أبنائه)، ولو كان بظلمه وشططه يستحق كل شيء، والشر بالشر والبادئ أظلم.

لكن متى سيعقل رجل السلطة هذا المدمن على الشطط؟ فما الفرق مثلا، في أن يرخص لجمعية بتنظيم كرنفال للمسيرة الخضراء ويمنع من ذلك أخرى؟ هل سترفع فيه الأولى علم البلاد وترفع فيه الأخرى علم غيرها؟ هل سترفع فيه المرخص لها كتاب الله كما رفع في المسيرة وترفع فيه الممنوعة كتاب الإنجيل؟

لقد منعت جمعيات من حقها في استعمال قاعات عمومية فبنت لها مقرات نشطتها باستمرار بأنشطتها التربوية والإشعاعية، في حين أن تلك القاعات الممنوعة من طول غلقها قد عششت فيها الوطاويط وعلتها خيوط العنكبوت، لا أموالا عامة أبقت ولا أنشطة الجمعيات احتضنت، فمن يبوء بالإثم التاريخي لذلك غير المتسلطين والأريسيين؟

واليوم، اليوم والثورة الرقمية والتقنية والعالم الافتراضي وصفحات التواصل الاجتماعي قد غزت كل المؤسسات والإدارات والجمعيات، فأصبح بمقدور أي جمعية أن تجعل لها مقرا وأنشطة ومنخرطين في مجرد حاسوب أو حتى هاتف ذكي، بل في مقدور أي فرد في جمعية أو بدونها أن يقوم بأي نشاط تكويني.. إشعاعي.. تواصلي.. مباشر أو غير مباشر.. ويعلن له ويسجله عبر منصات ومنصات وصفحات وصفحات، ويخزنه في مواقع ومواقع ويروج له عبر تطبيقات وتطبيقات..، ولا تستطيع أية إدارة أن تفعل ضده أي شيء، اللهم ما قد يكون أيضا من التعسف “الرقمي” والشطط “الافتراضي” وأخذ فلان بإبداع واستعمال وسائل علان؟

الجمعيات طاقة فكرية ومنتوج عملي، والطاقة قد تثمن وتستثمر وتكون دافعة ورافعة، والأفكار قد تحاصر فتتراجع ولكنها لا تموت، فالرجوع لله.. الرجوع لله.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى