عبد الله الفاسي يفكّك شفرة الدّعم الأمريكي للكيان المحتلّ 3/3
اللوبي الصهيوني في أمريكا.. لماذا لا يزال أقوى من نظيره الأوروبي؟

في الحلقتين السابقتين وقفنا عند سياسات بايدن وترامب في دعم “إسرائيل”، وكيف ظل الدم الفلسطيني ضحية لتنافسهما على إرضاء اللوبي الصهيوني. لكن السؤال الأعمق يظل: لماذا ينجح هذا اللوبي في واشنطن بشكل يفوق حضوره في أوروبا، حيث بدأ نفوذه يتراجع بشكل ملحوظ؟
1. واشنطن تحت القبضة الصهيونية
لم يكن سرّاً أن قوة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ترتكز على ثلاث ركائز كبرى: المال، والإعلام، والسيطرة على النخب السياسية، مع إضافة رابعة غالباً ما يُسكت عنها: سلاح الابتزاز.
أولاً: القوة المالية
يُعتبر “(AIPAC)” “اللجنة الأميركية الإسرائيلية للعلاقات العامة” رأس الحربة؛ إذ أنفقت في سنة 2023 وحدها أكثر من 4.2 مليون دولار، وتملك شبكة من نحو مئة ألف متبرع، بينهم شخصيات بحجم الملياردير الراحل شلدون أديلسون. وفي الانتخابات الأميركية لسنة 2024، ضخّ اللوبي أكثر من 60 مليون دولار لدعم المرشحين الموالين لإسرائيل، ما جعل الولاء لتل أبيب شرطاً شبه إلزامي لكل من يسعى إلى مقعد في الكونغرس أو كرسي في البيت الأبيض.
ثانياً: السيطرة على الإعلام والنخب
حوالي 70% من التغطية الإعلامية الأميركية للأحداث في فلسطين تُقدَّم من منظور إسرائيلي خالص. الجامعات العريقة مثل جامعات الـ Ivy League تحتضن معاهد دراسات يهودية تبرر السياسات الإسرائيلية وتُلبسها لباس “الدفاع عن النفس”. وهكذا يتغذى الرأي العام الأميركي يومياً بخطاب يكرّس الرواية الصهيونية، ويُجرّم أي محاولة لتفكيكها.
ثالثاً: اختراق الحزبين الكبيرين
لم يُخف الجمهوريون يوماً أنّهم الذراع السياسي الأكثر إخلاصاً لتل أبيب، بينما ظل الديمقراطيون يعيشون تناقضاً بين جناح تقدمي متعاطف مع فلسطين وقيادة حزبية تتغذى من تمويل اللوبي. الأرقام هنا فاضحة: 72% من أعضاء الكونغرس الديمقراطي تلقّوا تمويلاً من مجموعات ضغط صهيونية، فيما بلغت مساهمات اللوبي في حملة بايدن 6.4 ملايين دولار.
رابعاً: الابتزاز كسلاح خفي
لا يقف نفوذ اللوبي الصهيوني عند حدود المال والإعلام، بل يمتد إلى ملفات الابتزاز التي تُستخدم لتركيع الساسة الأميركيين عند الحاجة. المثال الأوضح تجلّى مع الرئيس الحالي دونالد ترامب: فبعد أن بدأ يرفع لهجته ضد بنيامين نتنياهو في الأشهر الماضية، لم يلبث أن انقلب موقفه بزاوية 180 درجة عقب إعادة فتح ملف “جزيرة إبستين” سيئة السمعة؛ التي طالت شخصيات نافذة في السياسة والمال والإعلام. هكذا عاد ترامب سريعاً إلى بيت الطاعة الإسرائيلي، وهو ما يفضح كيف تُدار لعبة الولاءات في واشنطن: ليس فقط بالشيكات الانتخابية، بل أيضاً بشبكة مصالح وفضائح لا يجرؤ السياسي الأميركي على كسرها.
2. أوروبا: ملامح تراجع النفوذ
يبدو المشهد مختلفاً على الضفة الأخرى من الأطلسي؛ فالقارة الأوروبية تشهد في السنوات الأخيرة تحولات متسارعة تنبئ بتراجع القبضة الصهيونية.
أولاً: وعي شعبي متنامٍ
لقد جسّدت المظاهرات المليونية التي خرجت في فرنسا وبريطانيا سنة 2024 احتجاجاً على جرائم غزة؛ تحوّلاً في المزاج العام الأوروبي. بحيث لم يعد الشارع يبتلع الرواية الإسرائيلية بسهولة، بل صار يُحمّل الاحتلال المسؤولية المباشرة عن الدم المسفوك.
ثانياً: تحولات إعلامية وسياسية
حتى المؤسسات الإعلامية التقليدية مثل BBC و”فرنسا 24″ بدأت تستعمل مصطلحات مثل “احتلال” و”جرائم حرب”. ومع أزمة الطاقة التي فجّرتها الحرب الأوكرانية، ارتفعت أصوات أحزاب يسارية تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل كما فُرضت على روسيا، ما أضعف حصانة الاحتلال أمام النقد السياسي.
ثالثاً: سقوط ذريعة “معاداة السامية“
في الماضي كان أي نقد لإسرائيل يُقابل باتهامات جاهزة بمعاداة السامية. لكن حركات مثل BDS نجحت في الفصل بين اليهودية كديانة والصهيونية كمشروع استعماري، ما سحب البساط من تحت هذا السلاح الابتزازي. وقد توّجت محكمة العدل الأوروبية هذا التحول بقرار تاريخي عام 2023 يُقرّ بشرعية مقاطعة المنتجات الإسرائيلية.
3. هل تنكسر شوكة اللوبي في أمريكا؟
رغم هذا التراجع الأوروبي، ما يزال المشهد الأميركي مختلفاً. صحيح أنّ هناك مؤشرات جديدة تستحق الانتباه: فقد أظهر استطلاع أنّ 51% من جيل “Z” الأميركي يتبنى موقفاً مؤيداً لفلسطين، كما بدأ الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي يضغط بشكل أكبر لتغيير السياسة الخارجية. لكن الطريق ما زال طويلاً.
فالقوة المالية، وسيطرة الإعلام، وارتباط الطبقة السياسية بتمويل اللوبي، فضلاً عن شبكة الابتزازات الخفية، كلها عوامل تجعل من الصعب كسر الحصن الأميركي في المدى القريب. ومع ذلك، يمكن القول إنّ بذور التحول قد زُرعت، وما على الزمن إلا أن يكشف إن كانت ستنمو إلى شجرة تقلب موازين الدعم التقليدية لإسرائيل.
4. خلاصة
بينما بدأت أوروبا تُظهر علامات تحرر من القبضة الصهيونية بفعل ضغط الشارع وتحولات الإعلام والسياسة، لا تزال واشنطن قلعة محصّنة للوبي الصهيوني، يحكمها المال والإعلام والنفوذ الحزبي، ويعززه سلاح الابتزاز الخفي. ومع ذلك، فإن بروز جيل أميركي شاب أكثر وعياً بالعدالة وحقوق الإنسان قد يشكّل على المدى الطويل أول صدع في جدار الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل.