د عبد العزيز الإدريسي يكتب: غزوة بدر الكبرى من منظور الفيلسوف طه عبد الرحمن 

تعددتْ قراءات أحداث السيرة النبوية واخلتلف منظورات مقاربة وقائعها على مرِّ الدهور والعصور، ومن بين الأحداث التي استَأثرت  وتستأثرُ بالدراسة والنظر، نجدُ غزوة بدر الكبرى التي كانت في شَهر رمضان المبارك من السَّنة الثانية للهجرة، وجرت هذه المعرَكة في يوم الجمعة، السابع عشر من رمضان، وفي هذه السنة فُرض الصِّيام وكانَ أول رمضان يصُومه المسلِمون بقيادة النَّبي صلى الله ُعليه وعلى آله وسلم، وكانت هذه الغزوة هي أول مواجهة عسكرية حاسمة بين المسلمين والمشركين من مكة، وتُوجتْ بانتصار استراتيجي كان له ما بعده بالنسبة للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة، وتُسمى هذه الغزوة أيضا: ببَدر القتال، وغزوة الفُرقان.

وبالرُّجوع إلى الكتاب الأخير للفيلسوف طه عبد الرحمن” السِّيرة النبوية والتّأسيس الأخلاقي” الصادر عن مركز نهوض للدراسات والبحوث، في طبعته الأولى 2024م،نجده قد أفرَد غزوة بدر الكبرى بنَظر مجدد و رأي مسدد من خلال ما أورده في الصفحات(من 333إلى 341)، فقد أطرَّحديثه عن أحداثِ السِّيروتفكره فيها ب : ميثاق الإشهاد وميثاق الاستئمان وميثاق الإرسال وميثاق الاختصاص، مُؤكدا أن السيرة النبوية العظيمة مُنجز تَاريخي لا يُعلى عليها أصالة وتداولا، من خلال البحث عن مكنُونات الحِكمة بمنهج التفلسف الأخلاقي لدارسة السيرة النبوية الموصل إلى التفلسف المسدد أو التفلسف الائتماني.

وعليه فقد ربط بين معركة  بدر  وروح الائتمان، ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يتخذ قرار ملاقاة جيش الكفار الذي بلغ ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، قد قام بتخليق إرادات أصحابه على  مقتضى  الائتمان وصلا  وعدلا، بمعنى أن إرادة كل صحابي تكون موصولة بميثاق الإستئمان، وعادلة   بفضل تعلقها  بدفع  الظلم. ولذلك  كانت إرادة  الله  بأن اختار لهم  القتال حيث أرادوا  هم الاغتنام، فقد أفلتت  عِير  أبي  سفيان وقدم نَفير أبي جهل الأمر الذي بم يكن يتوقعه الصحابة رضوان الله عليهم.

فكانت  وسيلة  الجهاد هي  التي  يُتوصل بها إلى تخليق الإرادة على مقتضى  الائتمان، ذلك  أن الائتمان لا يجتمع مع  الاغتنام، فالاغتنام  امتلاك، والائتمان من الأمانة التي هي عبارة عن وديعة تُرد إلى طالها المودع لها، وبالتالي فلا  جهاد ولا  قتال بدون  ائتمان، قال  تعالى:﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ سورة الأنفال: 7الآية.

وفي هذا الصدد تأتي مشروة الرسول  عليه  الصلاة والسلام للصحابة، فبعد  أن  سمع  رأي المهاجرين، أعاد على الجميع قوله: “أشيروا  علي  أيها  الناس!”، فرد عليه قائدهم  وحامل لوائهم  سيدنا سعد  بن  معاذ رضي  الله  عنه  سيد الأوس من الأنصار قائلا: “فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: “أجل”، قال سعد: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، وفي رواية: أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك ثم قال: “سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم”.

سجَّل طه عبد الرحمن حفظه الله على هذه الكلمة البليغة ثلاثة ملاحظات:

الملاحظة الأولى:  أن رسول الله عليه الصلاة والسلام  أراد تذكيرهم  أنهم مؤتَمَنون عليه على مقتضى العدل، روحا ومجالا وغاية ومنطقا، كما تقرر في بنود بيعة العقبة الثانية، لأن التذكير بين “عالم  المواثقة” يفضي إلى ائتمانهم على شخصه الشريف.

الملاحظة الثانية: أن الأنصار ذكروا لرسول الله ﷺ سابق فضله عليهم، إذ قام  بتذكيرهم بميثاق  الإشهاد، واصلا عقولهم به فهذا  قول  سعد  نيابة عنهم: “فقد آمنا بك، فصدقناك، وشَهدنا أن ما جئت به هو الحق”، ف”الإيمان” و “التصديق” حاصلان  في  “عالم المعاملة”، أما  “الشهادة” فليست محصورة بهذا العالم، بل تتعداه إلى “عالم المواثقة”، فتكون ملاقاتهم  للعدو وفق مقتضيات هذه الصلة التواثقية.

الملاحظة الثالثة: أنهم  أكدوا لرسول الله ﷺ تطمينا له، على أنهم مؤتمنون على “صدق  الجهاد” وعلى ما  يقتضيه “صبر” ائتمانهم على  شخصه وعلى أمره، فهم على حد قول سعد:”إنا لصُبُر في الحَرب، صُدُق في اللقاء” وبإضافتهم “الصدق” إلى  الحرب، يكونون  قد أضافوا خُلقا إشهاديا إلى خلق  استئماني، إذ ميزة  “الصدق”، كما سلف أن يدخل على خُلق مندرج في “الأمانة”.

ومن مقتضيات “صدق الائتمان” أن سيدنا سعد بن معاذ اقترح على رسول الله ﷺ عملا استثنائيا  قُبيل  اندلاع  المعركة والاشتباك  بين الجيشين، إذ عرض عليه بناء  مقر لقيادته يأمن منه فيه من العدو، قائلا:”يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه وندع عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك نلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعكم الله بهم يناصحوك ويجاهدون معك“.

ولذلك تلبَّست “الروح  الائتمانية” بسيدنا  سعد بن معاذ عندما لاحت بشائر النصر، حيث طفق بعض  الصحابة في  أسر مشركي قريش، بيد  أن سعدا آثر الإثخان في القتل بالعدو، لأن مقام الجهاد لا يتناسب مع  الاغتنام، لأنه يشغل المقاتل عن التجرد  من المِلك  وبالتالي الكف عن التنازع على الغنائم،﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚوَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69)سورة الأنفال، (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال]

وعموما فإن  مقام  الجهاد في غزوة بدر الكبرى يوجب التحقق بكمال الإئتمان، ولا كمال للإيتمان إلا بالخروج من كل نسبة  وكل حيازة، لأن كل منسوب أو محوز  للذات، في هذا المقام، لا ينفك عنه وصف ” العرَض  الدنيوي” بينما الجهاد في بدر إنما هو”جوهر  من  جواهر  الأخرى” أُكرم به  المسلمين في دنياهم، اصطفاء لهم من ربهم، واستجابة لدعاء نبيهم عليه الصلاة والسلام: لما رأى رسول اللهٰ صلى اللهٰ عليه وسلم قريش وصلت الوادي قال:”اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحِنْهمُ الغداة”.

يُؤكد  الفيلسوف طه عبد الرحمن في خاتمة  هذا الكتاب النفيس أن أساس الأخلاق ليس “العلاقة  الافتكارية” ولا “العلاقة  الاعتبارية” وإنما الأساس هو “العلاقة  الاقتدائية”، ولما كانت السيرة النبوية سيرة نموذجية مبينة على “كمال  الفطرة”، وكان  “كمال  الفطرة” متمثلا بكمالين اثنين هما: “كمال  الصدق” و “كمال  الأمانة”، فقد  اقتضت “العلاقة  الاقتدائية” التي تجمع  بين  رسول الله عليه السلام وأمته أن يكون الصدق والأمانة هما الخلقان اللذان ينبغي لأمته أن تقتدي به فيهما أول ما تقتدي به، حتى يتيسر لها استعادة فطرتها الحافظة لقيمها الشاهدة لمواثيقها، فتقدِر على تحصيل الأخلاق الحسنة كلها، قال رسول  الله  عليه وسلم: إَنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ وفي روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاقِ، وفي وراية ثالثة محاسن الأخلاق.

مكناس  قدس المغرب / صبيحة  الاثنين 16رمضان  1446ه/ 17مارس  2025م

والحمد لله  رب  العالمين

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى