شعب وستة أسرى.. وثبة كبيرة عكس الريح! – ساري عرابي
ماذا يقرّر ستة من الأسرى الفلسطينيين الهرب من سجن محصّن، بالرغم من أن اعتقالهم، وفي أحسن الأحوال استشهادهم، هو النتيجة المتوقعة، كما تقول طبيعة الأشياء، وكما تروي التجربة الطويلة مع محاولات الهرب من سجون الاحتلال؟!
قبل ذلك، فلنعد بالسؤال إلى أصله، وهو لماذا قرروا حفر نفق بأدوات بدائية لا تكاد تصلح لفعل شيء، ومن المتوقع أن يُكتشف نفقهم في ورديات التفتيش اليومية، في أيّ لحظة، كما تقول كذلك طبيعة الأشياء، وكما تروي التجربة الطويلة مع محاولات الهرب من سجون الاحتلال؟!
هل كان يتوقع المحتفون بالأسرى حين نجاحهم، وقبل اعتقالهم مجدداً، أنّ إعادة اعتقالهم هي الاحتمال الغالب؟! نعم، لكنهم امتنعوا عن قولها، أملاً، واحتراماً لذلك الجهد الجبار، والتحدّي المحدّق في جدار المستحيل، أمّا وقد وقع الاعتقال، فأعلنوا ما كانوا يقولونه همساً.
لماذا قرروا حفر، نفق بأدوات بدائية لا تكاد تصلح لفعل شيء، ومن المتوقع أن يُكتشف نفقهم في ورديات التفتيش اليومية، في أيّ لحظة، كما تقول كذلك طبيعة الأشياء، وكما تروي التجربة الطويلة مع محاولات الهرب من سجون الاحتلال؟!
هل حينما يقول أحدٌ إن اعتقالهم هو النتيجة المتوقعة، يكون بذلك يهين جهدهم، أو يسفّه أملهم، أو يبخس حكمتهم؟! الصحيح لا، وإنما هم يعبّرون عن موقع هذا الحدث الفذّ في النضال الفلسطيني، لا من حيث إنه جزء منه فحسب، ولكن من حيث إنّه صورة مصغّرة منه، يتكثّف فيه كلّ في ما في النضال الفلسطيني، ويرجع أصله وجذره إلى الأصل والجذر اللذين تأخذ منهما القضية الفلسطينية صورتها، وتتكوّن بهما حقائقها.
ما النضال الفلسطيني سوى أنّه الصعود إلى ذروة القدرة المجرّدة من الأسباب، لمواجهة الأسباب كلّها؟! وبكلمة أخرى، هو وثبة الإرادة في قلب المعركة المستحيلة، وردم الهوّة بفائض التحدي والكرامة والإصرار والإيمان، والبلوغ بالإحساس بالواجب إلى أقاصي الممكن الأعزل. وبكلمة أوضح، هو قتال شعب أعزل، قليل العدد، في جغرافيا محصورة صغيرة ومحفوظة، مكشوف الظهر، عديم النصير القريب، لا لأعتى قوّة في “الشرق الأوسط” كلّه فحسب، بل للعالم كلّه. فقوّة الاحتلال النووية في فلسطين تفتقر لأساس الوجود، فتتغطّى بمالكي القنابل النووية في العالم كلّهم، وتتغطّى بكلّ الغدر والشرّ الذي في العالم، ثم يقرّر هذا الشعب قتالها.
لا فرق بين استجابة معتقلي “جلبوع” الستة القصوى للتحدي، ولوجاً بأنفسهم قلب المستحيل، وبين نضال الشعب الفلسطيني، الطويل والمرير، والذي يجد نفسه في مواجهة العالم، وترسانة الظلم المنتفش، المنسوج من قوى العالم، والمتدرّع بقوانين فرضتها القوّةُ دوليةً، ودعاية فرضتها القوّةُ كونيةً، وقبل ذلك وبعده وأثناءه، القوّة. والفلسطيني وحيداً يسبح عكس التيار، ويمخر عكس الريح، ويثب في قلب المعركة المستحيلة، عكس الجاذبية. فهل كانت وثبة الفلسطيني، القديمة منذ العام 1917، متجددة الحدوث حتى الآن وحتى الغد، محكوما عليها بالفشل؟!
حفر نفق مستحيل من سجن جلبوع، عبوراً في بيئة مشحونة بالعدو، عدداً وعتاداً، بشراً وتقنيات رصد، كحفر نفق في غزة، في بيئة مستحيلة لإدارة معركة معقولة مع العدو. تحتاج الرصاصة نفقاً لعبورها، كما يحتاج الصاروخ نفقاً لإخفائه، كما يحتاج المقاتل نفقاً لكمونه، كما يحتاج الشاب العشريني في الضفّة نفقاً في نفسه، يعبر منه إلى السماء، ليدوس بتحدّيه البالغ المنتهى؛ كلَّ تقنيات الاستعمار المفروشة في شوارع الضفّة، فيسجل عملاً لن يتمكن هو من المراكمة عليه، لأنه سيُستشهد للتوّ، أو يسجن، أو يستشهد بعد أيام من مطاردة قصيرة؛ يبدو له فيها وكأن نجوم السماء تنظر إليه، كما تنظر إليه كاميرات العدوّ. قال لي مطارد ذات مرة: كنت أخال عمارات المدينة تتبعني، كأنها بشر يمشي على قدمين. لكنّ العمل الذي كتب في سجل النضال، سيأخد موقعه من المراكمة العامّة.
هذه صورة من المعركة المستحيلة الراهنة، ولكل حقبة من نضالات الفلسطينيين صورها، لكن ما معنى المستحيل في حالة الفلسطيني؟!
لا يعني المستحيل هنا الفشل الحتمي، ولكنه يعني أنّ ما يبدو فشلاً حتميّاً في واقع المادة يفشل أن ينال من استجابة الفلسطيني للتحدي، فيكسر الفلسطيني بذلك ما يبدو، وهماً، قوانين صلبة في الواقع المادي، وهو ما ثبت للفلسطيني، بتجربته الطويلة، أن استجابته للتحدي قادرة على المراكمة، وعلى صياغة وعي نضالي فطري، ما يلبث أن يتجدد مهما عانى من انقطاعات تاريخية وجغرافية. ويزيد على ذلك أهمية أن هذه المحاولات تراكم أحياناً إثخاناً في العدوّ، وأحياناً تعظيماً لقدرات الشعب، وأحياناً استعادة لروحه المعنوية، وأحياناً مواجهة ناجحة لدعاية العدوّ الزائفة، وأحياناً بصقة في وجه العالم، حتى ما عاد المستحيل مستحيلاً. فالعالم الذي أسّس “إسرائيل”، ويحميها، غير قادر على تجاوز هذا الشعب، الذي يقول بمحاولاته إنه ضحية غير مستكينة، فلا يسع العالم حينئذ إلا النظر إليه، ولا يسع الخونة إلا الخجل من أنفسهم، فإن لم يكن، فالتواري في ظلماتهم.
نفق جلبوع، والنجاح الأوّلي بالخروج منه، وجرّ ثكنة العدوّ المسماة “إسرائيل” للبحث عن الستة عابري النفق؛ ككل خطوة يخطوها فلسطيني في سياق النضال، رفضاً للقيد وتمرداً على الواقع، وإذكاء لروح التحدّي. ولا يمكن لشعب أن ينتصر أو ينجز مشروعه التحرّري بلا ذلك، فتجاوز المستحيل هو الخطوة الأولى التي لا بدّ منها للمراكمة عليها، ومن ثمّ فتوقع الاعتقال لا يغيّر من الحقيقة شيئاً. فمن حفر النفق المستحيل واجتازه باتت المستحيلات التالية أمامه أقلّ استحالة، مما يعني أن أملاً لا يموت، وللفلسطينيين في تاريخهم تجارب ناجحة بتحويل الهرب من السجن إلى ثورة، فما الذي يمنع أن تتكرّر؟ فإن كانت نسبة النجاح ضئيلة، فالمحاولة كبيرة في سجل المراكمة، وكبيرة في الارتفاع بالروح المعنوية، والإذكاء الجماعي لإرادة الشعب.
ساري عرابي
المصدر: عربي21