شعبان وتعاون أهل البيت على الطاعات
الحمد لله حمدا كثيرا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق لعبادته ويسر لهم فرص المراجعة والتوبة وغفران الذنوب فقال سبحانه : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبد الله ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله كان يصوم شعبان إلا قليلا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد:
أولا التشجيع على قضاء دين رمضان
عباد الله لقد أهل الله تعالى علينا هلال شعبان، وهو شهر التدريب والاستعاد لرمضان، وهو ما كان يفعله عليه السلام ويحرص عليه. وكان يؤازر أمهات المؤمنين عمليا ويشجعهن على الأعمال ليرتقين إلى مقامه الشريف عليه السلام. روى البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – : قالت : « كانَ يكونُ عليَّ الصومُ مِنْ رمضانَ ، فما أستطيعُ أن أقضيَ إِلا في شعبانَ ». ولمسلم قالت : « إِنْ كانَتْ إحدانَا لَتُفطِر في زمانِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فما تَقْدِرُ على أن تقضيَهُ معَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يأتيَ شعبانُ ». وأخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها: « وما كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم في شهر ما يصوم في شعبانَ ، كان يصومُهُ كلَّه إِلا قليلا ، بل كان يصومُه كلَّه». وقد رجح بعض الشراح أنه عليه السلام كان يكثر من صيام شعبان لمساعدة أمهات المؤمنين على قضاء دين رمضان الماضي قبل دخول اللاحق.
ثانيا قيام الليل والتعاون عليه: وكان عليه السلام حريصا على إشراك أمهات المؤمنين في صلاة الليل وفي القيام للفجر. يدل على ذلك أنه كان يجد مشقة في ذلك ويستعين بالله تعالى على إيقاظهن. روى البخاري ومسلم ومالك عن أم سلمة – رضي الله عنها – : « أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- اسْتَيْقَظَ ليلة فَزِعا، وهو يقول : لا إِله إِلا الله ، ماذا أُنزل الليلةَ من الفتنة ؟ ماذا أُنزل من الخزائن ؟ – وفي رواية : ماذا فُتح من الخزائن ؟ – مَن يُوقِظُ صواحبَ الحُجُرات – يريد : أزواجَه – فيُصلِّين ؟ رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ».,,,فهل نقتضي بالنبي عليه السلام ونتعلم منه هذا الحرص على الاتقاء بزوجاتنا وأزواجنا؟ وهل نتلطف في ذلك؟
وكان عليه السلام ينصح لأمهات المؤمنين، ويوجههن للابتعاد عن التنقيص من الغير. روى روى الترمذي عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: صفية بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: “ما يبكيك؟” قالت: قالت لي حفصة: إني ابنة يهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، فبما تفخر عليك؟” ثم قال: “اتق الله يا حفصة”..
ثالثا شعبان ورفع الأعمال والواجب علينا فيه:
أيها الإخوة المؤمنون إن الله تعالى لا تخفى عليه خافية من أعمالكم. وقد وكل بكم ملائكة حافظين يحصون عليكم القليل والكثير. قال تعالى : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ () كِرَامًا كَاتِبِينَ () يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 10 – 12]. قال ابن كثير رحمه الله : وقوله تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } يعني: وإن عليكم لملائكةً حَفَظَة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم” …. وإذا كان النبي عليه السلام يحصى شعبان لأجل ضبط رمضان فإنه بذلك يعلمنا أن نحصى أعمالنا، وأن لا نحتقر السيئات التي قد توردنا المهالك. ” إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالا تهوي به في النار …” واعلموا رحمكم الله تعالى أن الأعمال ترفع إلى الله عز وجل في كل أسبوع فيطلع عليها وهو أعلم بها. كما ترفع إليه سنويا في منتصف شعبان . روى الترمذي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : فَقَدْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة، فإذا هو بالبَقيعِ ، فقال : أكنتِ تَخافينَ أن يحيفَ الله عليك ورَسُولُه ؟ قلتُ : يا رسولَ الله ،إني ظننتُ أنَّكَ أتيتَ بعضَ نسائِكَ ، فقال : إن الله تبارك وتعالى ينزلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ من شعبان إلى سَماءِ الدُّنيا ، فَيَغْفِرُ لأكثرَ من عَدَدِ شعر غَنَمِ كلْب”.
رابعا صيام آخر شعبان:
وعن أبي سلمة قال : « سأَلت عائشةَ عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فقالت: كان يصوم ، حتى نقولَ : قد صام ، ويفطر حتى نقولَ : قد أفطر، ولم أرَه صائما من شهر قَطُّ أكثر من صيامه من شعبان ، كان يصوم شعبان كلَّه ، كان يصوم شعبان إِلا قليلا ». وفي رواية الترمذي قالت : « ما رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر أكثر صياما منه في شعبان، كان يصومه إِلا قليلا ، بل كان يصومه كلَّه ». وفي أُخرى لأبي داود قالت : « كان أحبَّ الشهور إِلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه: شعبانُ ، ثم يصله برمضان ».
وروى النسائي عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – : قال : « قلتُ : يا رسول الله ، لم أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصومُ من شعبان ؟ قال : ذاك شهر يَغْفُلُ الناسُ عنه بين رجب ورمضانَ ، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إِلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفع عملي، وأنا صائم».
القول في الصيام بعد انتصاف شعبان : روى أبو داوود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – : أنه سمع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: « إِذا انتصف شعبان فلا تصوموا ». وفي رواية الترمذي : « إِذا بَقيَ نصف من شعبان فلا تصوموا ». وعن عمران بن حصين – رضي الله عنهما – : قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « أما صمت من سَرَرِ هذا الشهر ؟ يعني : آخرَ شعبان » قال : لا ، قال : « إِذا أفطرت فصم يومين». وقد تكلم العلماء على حكم الصيام قبل رمضان -أي: من آخر شعبان- وأوضحوا أنه لا بأس به، وقد استدل على ذلك بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم في شهر شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً ) تعني أنه يكثر من صيام أيام شعبان، وإنما يفطر منه أياماً قليلة، ولعل ذلك ليقوى على استقبال شهر رمضان؛ فإن الإكثار من صوم شعبان يقوي على شهر رمضان….فدل على أنه يجوز الصوم من آخره، كاليوم الخامس والعشرين أو السادس والعشرين أو نحو ذلك، فأفاد أنه لا بأس أن يصام في آخر شعبان كما يصام في أوله.
كما رخص في ذلك لصاحب العادة التي يصومها، مثاله: إذا كان الانسان يصوم كل اثنين أو كل خميس، فوافق آخر شعبان يوم الإثنين أو يوم الخميس، فله أن يصوم؛ لأن هذا صيام لسبب، ولا بأس بالصيام لسبب، ومثلوا -أيضاً- بمن اعتاد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً من دهره كله، كما التزم بذلك بعض الصحابة، وهو صيام داود كما سيأتي.
الحسن الموس – باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة ونائب مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث