سورة الأعلى وآياتها 19 – نورالدين قربال
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾
سبِّح بمعنى عظِّم اسم ربك الأعلى، والعلة أن لا أعظَم ولا أعلى من الله تعالى. لذلك يقال سبحان ربي الأعلى. كل هذا يقتضي تنزيه اسم الرب الأعلى عن النقائص والشرك تنزيها مطلقا منسجما مع عظمته. والتسبيح يقتضي العبادة والخضوع للرب الأعلى. لأن ذكر أسماء الله الحسنى يتطلب من العبد استحضار المعاني الحسنة التي تحملها حتى يرقى في سُلَّم التزكية ويشعر بالطمأنينة الدائمة. ويناغم بين دلالة النص والاقتضاء والمعنى والإشارة. كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يحب أن يقرأ بها. ومن أجل التخفيف عن الناس في الصلاة أمر بقراءتها إلى جانب سور أخرى نحو “وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا“[1] و”وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى“[2]. و”هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ“[3]، و”قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ“[4] و”قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ“[5].
وللإشارة فهي سورة مكية وانفرد الضحاك بأنها مدنية والراجح هو رأي الجمهور بأنها مكية كما أكد على ذلك ابن الجوزي، لأن مصعبَ بنَ عمير وابنَ أمِّ مكتوم كانا يقرآن بها على أهل المدينة عندما قدما إليها في مهمة تبليغ الرسالة. وافتتحت بفعل أمر محمول على الوجوب. لأنه تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به سبحانه. لذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمون “سبحان ربي العظيم” في ركوعهم، كما جعلت “سبحان ربي الأعلى” في السجود. وسبِّح اسم ربك بمعني سبِّح ربك. لذلك نقول سبحان الله وسبحان ربنا.
والخطابُ بِ “سبِّح” موجه للنبي عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة للمسلمين جميعا وهو الرحمة للعالمين. والأعلى مجاز دال على صفتي العلو والارتفاع. وهو تفضيل مطلق، وهو الكمال التَّام الدائم. عكس ما ادعاه فرعون “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى“[6]. وأسماء الله الحسنى توقيفية وليست توفيقية، وجعلها في السجود مؤشر على إقران أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي.
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)﴾
لماذا التسبيح والتنزيه والتعظيم للرب الأعلى؟ لأنه خلق المخلوقات من العدم وأتقن وأحسن خلقها، وقدر جميع المقدرات، وهدى كل مخلوق لما يسر له، ويناسبه. والتسوية التعديل. وأنبت الكلأ الأخضر ثم جعله هشيما جافا متغيرا كما أكد على ذلك أغلب المفسرين. وكل ما ذكر من أفعال الرب الكريم، إنها صنعة ملتئمة وغير متفاوتة، متسقة ومحكمة، لأنها من صنع عليم حكيم. لقد قدر الأشياء، ووجهها إلى أفعال، وأنبت ما ترعاه الدواب، وبعد خضرته جعله يابسا أسود.
والهداية هنا عامة تهم مصلحة كل مخلوق. وهذه من نعم الله على عباده في الدنيا. التي أصبحت معبدا كبيرا عنوانه البارز التمجيد والتنزيه والتسبيح، إذن فهو تناغم بين الوجود والوجدان، والذوق والإشراق. لأن الكل يعمل في إطار الربوبية والرعاية. لأن الله تعالى خلق كل شيء فقدره تقديرا. وأخرج مسلم أن النبي عليه السلام قال: « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاء“[7].
والهداية مرتبطة بالوظيفة والاستعمال، وشاملة للكونية والشرعية في إطار احترام مبدأ الأخذ بالسنن الكونية والشرعية وصريح المعقول وصحيح المنقول. والمرعى مرتبط بالماء، والنفع، والسماء، والثمرات وتلويناتها، والمخلوقات، وهذا مقام عال له علاقة بعمر الإنسان وبعمر الطبيعة حسب المنازل والحقب التاريخية والعمرية.إذن كل شيء متناسب. والشقاء والسعادة مقدر والإنسان هو المسؤول عن الاختيار خاصة في الإرادي من النواميس الكونية.
نخلص من هذا الجزء إلى أن الله عز وجل خلق الكون في أحسن صورة، عالم بكل شيء، والهادي إلى ما يلائم، وجعل بين المخلوقات منطق التسخير، والله قادر على تغيير الأحوال. لذلك المسلم يسأل الله الثبات قائلا اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. وتبقى العناوين الكبرى لهذا الجزء ما يلي: إتقان الخالق لكل مخلوقاته، وإحسان خلقها، والرفع من قيمة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام تثبيتا له لذلك توجه إليه الرب الكريم بالخطاب المباشر.
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)﴾
الخطاب موجه لمحمد صلى الله عليه وسلم يخبره بمعجزة كبيرة تتجلى في نزول الوحي، وحفظه إياه في صدره، رغم أميته، ولا ينسى منه شيئا إلا ما شاء الله. واتخذ هذا الاستثناء من المفسرين كلاما طويلا. خلاصته أنه عليه الصلاة والسلام ينسى من القرآن ما شاء الله له ذلك. ونسيانه غير مطلق، إذن فهو لا ينسى بل ينسى بقدرة قادر. لذلك كان نسيانه نادرا وقليلا. وغالبا ما يكون في السنن والآداب، وليس في الواجبات. التي قد تحدث اختلالا في الشرع. وقد ينسى حكمه إذا تعلق الأمر بالناسخ والمنسوخ. وقال الفراء هو استثناء في الكلام. ولسان الحال: فلست تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، ولا يشاء أن ينسى منه شيئا. وعبارة “سَنُقْرِئُكَ” متعلقة بمحذوف، هل هو القرآن أي الوحي الذي يستعمل غالبا في القرآن أم غير ذلك؟
والخلاصة أن النسيان من العوارض البشرية، ونزلت هذه الآية تخفيفا من المشقة التي كان يشعر بها عند مراجعة القرآن مخافة أن ينسى. وقد كفاه الله تعالى ذلك. إن الذي تكفل بالوحي هو الرب الكريم، الذي يعلم ما يصلح لمخلوقاته، فهو العالم بالقول والفعل، وما خفي من الدلالات والمعاني. وهو على دراية بالسر والعلانية. إذن فهو الضامن لحفظ كتابه من النقص.
إن الهدف من “سَنُقْرِئُكَ” هو “وَنُيَسِّرُكَ”. وهذا من فضل الله تعالى. تيسير الأمور، وتيسير أعباء الدعوة، وتيسير الرسالة والدين. اليسر بشارة كبيرة، لذلك فالدين والشرع يُسْر وليس عُسراً. فيَسِّروا ولا تُعَسِّروا. بَشِّروا ولا تُنَفِّروا. فشَتَّان بين اليسر والعسر، بين الاستقامة والاعوجاج، ويمتح اليسر مشروعيته من الحنيفية السمحة السهلة. التي تحمل معاني التهيئة والتسخير، فكل ميسر لما خلق له. و”ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا”[8]. وقال عليه الصلاة والسلام: “إنَّما بُعثتُم ميسِّرينَ ولم تبعثوا معسِّرينَ”[9]
إن اليسر مرتبط بالخير، والعطاء، ومصحوب بنون التعظيم. لأن الرسول عليه الصلاة السلام قدوة للعالمين. إن اليسر منهج يحتاج إلى قناعة عقلية وقلبية وتوفير الإرادة. بعد هذه الفتوحات الربانية على نبيه الكريم عليه السلام، أمره بالقيام بتبليغ الرسالة التي من أجلها كانت بعثته.
﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13)﴾
بعد مرحلة التسبيح لله تعالى، والعلة الموضوعية لهذا التسبيح والتعظيم. والعناية الربانية برسوله عليه السلام من حيث التمكن من حفظ كتاب الله. وتيسير الأمور له، وعلى رأسها تبليغ الرسالة. أمره الله تعالى بتذكرة الناس حيث نفعت هذه التذكرة.
وهذا ليس شرطا وإنما هو وصف، وتذكير، الهدف منه الانتفاع، وعند البعض شرط. فالنفع بيد الله والتذكير بشري. وفي حالة الانتفاع يصبح التذكير واجبا. لأن الفوائد متاحة وميسرة. فلا تعب مع الذين يزيدهم التذكير نفورا وابتعادا. لأن الناس أمام التذكير صنفان: منتفع وغير منتفع. وذهب مفسرون إلى أن التذكرة تستهدف الجميع. وتعتمد مبدأ المداومة. لكن يمكن أن نحدث الناس بما يعرفون حتى لا تكون فتنة. والتذكرة موعظة للبعض وحجة على الآخر. فالقرآن جاء بالخاص والعام. وبذلك فالتذكير واجب وإن لم ينفع.
والذي سيتذكر من الناس هو الذي يخشى الله تعالى، فيسعى إلى الحسنات ويبتعد عن السيئات. والناس أمام التذكرة من هو موقن بها أشد اليقين، ومنهم من يتأرجح بين النفي والاثبات، ومنهم من ينكر ولكل مقام مقال. إذن كل من يخشى سيتذكر. وقد تحصل الخشية بعد التذكرة. و”من يخشى” مطلق. إذن سيتعظ الذي يعلم بأن الله تعالى سيجازيه على أعماله خيرا أم شرا.
والشقي لا يتعظ لأنه لا يخشى. وهذا في صراع وجداني مع الذكرى والموعظة والنصيحة. لأنه يعيش التعاسة والشقاوة، لأنه شقي في علم الله. والتجنب هو التباعد. وعدم الالتفات. ومن تم كان مصيره النار الكبرى. العظمى، وتطلق كبرى على نار جهنم. لأن أهل النار لا يموتون فيها ولا يحيون إلا ما شاء الله تعالى. فلا استراحة ولا منفعة. يقاسي حر جهنم، وهذا بيان مؤثر في القلوب عندما تعرف مصير الأشقياء. بعد كل هذا اختتمت السورة بحقيقة الإنسان فكيف كانت الخاتمة؟
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾
الإنسان الذي أفلَح وتزَكَّى هو الذي طهَّر نفسه من الأخلاق الرذيلة. وذكر اسم ربه فصلَّى أي أقام الصلاة في أو قاتها ابتغاء رضوان الله وطاعةً لأمره وامتثالاً لشرعه. ويدخل في الفلاح إعلانُ الشهادة والعملُ بمقتضياتها. وابتغاءُ رضوان الله، والامتثالُ لشرعه. وبذلك يحصل الربح والفوز. لأنه نقَّى نفسه من الظلم والشرك، وسوء الأخلاق. وبذلك يحصل السرور والبهجة وهذا هو حسن الخاتمة.
إن هذا البلاغ المبين، يشمل الخير والنفع، وعرفوا الفلاحَ بوصول المرء إلى ما يطمح إليه من فوز ونفع. وجُعلت قرة عينِه صلى الله عليه وسلم في الصلاة[10]. إذن هذا الصنف من الناس انتفع بالتذكرة، ومن استطاع أن يقدم بين يدي صلاته زكاة فليفعل. إنه مقام الظفر بالمبتغى من الخير. وقد تفيد التحقيق. وفيه تثنية أهل الشقاء وضمهم إلى أهل الفلاح. والناس نوعان أهل الشقاء، وأهل الخشية. من تطهر من الشرك والمعاصي، فاز بالمطلوب. ويتم التطهر بالإيمان. وإخراج الصدقة.
لكن للأسف الشديد، فأغلبية الناس يفضلون زينة الحياة على نعيم الآخرة. والأول زائل والثاني دائم. فلماذا يختار ابن آدم الزوال وينغمس فيه وينسى الباقي الذي لا يزول؟ والخطاب موجه للجميع وخاصة الذين آثروا الدنيا على الآخرة. وهو الأشقى الذي سبق التطرق إليه. ولو عاينوا المتاع الدائم، ما عدلوا ولا مالوا إلى الذي ينفد ويفنى. إذن طغت العاجلة إلا من عصم ورحم الله. وهذا لا يعني الزهد في الدنيا بصفة مبالغ فيها وإنما هو اعتماد الوسطية والاعتدال. قال تعالى ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[11].
إن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود. لماذا؟ لأن متاع الآخرة شامل، وغير مخلوط بالآلام، ودائم. إذن الزجر حاضر عن الالتفات إلى الدنيا. والترغيب في الآخرة أكثر حضورا.
إن المعاني التي ذكرت في هذه السورة، سبق ورودها في الصحف الأولى قبل نزول القرآن. نحو صحف إبراهيم وموسى. وهذه المعاني تدخل في الآداب، والأحكام والمواعظ. وذُكِر إبراهيم وموسى باعتبارهما من أولي العزم من الرسل، تنويها بهما وإعلاء لمقامهما. إذن فهو كلام نافع، ثابت ومؤصل. وكان الرسولان عليهما السلام معروفين عند القوم جميعا ولصحفهما دلالات ممتدة في التاريخ أفقيا وعموديا، وعندما يجتمع التاريخ والجغرافية يصبح قدرا مقدورا يجب أخذه بعين الاعتبار أثناء التحليل والتدبر والتدبير.
——-
[1] ) سورة الشمس الآية 1
[2] ) سورة الليل الآية 1
[3] ) سورة الغاشية الآية 1
[4] ) سورة الكافرون الآية 1
[5] ) سورة الإخلاص الآية 1
[6] ) سورة النازعات الآية 24.
[7] ) صحيح مسلم كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
[8] ) رواه البخاري ومسلم.
[9] ) رواه البخاري وأبو داود الترمذي والنسائي وأحمد.
[10] ) –قال عليه الصلاة والسلام: “حبِّبَ إليَّ من دنياكُم: النِّساءُ والطِّيبُ وجُعِلَت قرَّةُ عيني في الصَّلاةِ” صحيح الجامع الصغير حديث رقم 3741
[11] ) سورة القصص الآية 77