سلسلة غزاويات طوفان الأقصى (2) – نورالدين الهادي

وشهد شاهد من أهلها
أخيرا حصحص الحق بإعلان مهم صدر عن مؤتمر يهودي مناهض للصهيونية على الصعيد الدولي، حيث نظمت “مؤسسة فيينا للديمقراطية وحقوق الإنسان في فلسطين” بمدينة فيينا بين الثالث عشر والخامس عشر من يونيو 2025، مؤتمرا متميزا حضره ما يقرب من 500 شخصية يهودية من كل البقاع، يمثل تيارات من الأكاديميين والصحفيين وشبكات دولية متعددة مؤيدة لحق الشعب الفلسطيني على أرضه، وهو أول مؤتمر يكسر فيه يهود احتكار الايديولوجية الصهيونية للتمثيل اليهودي، تلك الإيديولوجية التي تزعم تنفيذ وعد الرب بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، معتبرين الصهيونية مشروعا انعزاليا، يعوق اندماجهم في المجتمعات التي تؤويهم، فيُسقطون ادعاء الصهاينة في كون “إسرائيل” هي الممثل الشرعي والوحيد لليهود في العالم، ويرفضون هذا الكيان الدموي الذي يرتكب المجازر ضد الأبرياء، لذلك جاء هذا المؤتمر لتبرئ اليهود من تمثيل الكيان الإسرائيلي لهم، وللتعبير عن استنكارهم لجميع الممارسات الهمجية الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني منذ اغتصاب فلسطين قبل أكثر من سبعة عقود.
وقد أثبت المفكر الأكاديمي اليهودي المناهض للصهيونية نورمان فينكلستين سنة 2018 نوازع الإبادة في العقل والممارسة الصهيونية، حين أصدر كتابا تحت عنوان: “غزة تحقيق في استشهادها”، ضمنه شهادة وموقفا عبر عنه أب الألسنية الحديثة نعوم تشومسكي منذ خمس عشرة سنة، حين كشف “أنّ ثمة تكتيكًا يعتمده الإسرائيليون منذ الخمسينيّات، فيما يعرف ب “الإصابة بالجنون”، إذ تحسب “إسرائيل” أنّه من المفيد لها على الدوام أن تظهر بمظهر مَنْ “جُنّ جنونه”. وهذه “الإصابة بالجنون” باتت أسلوبًا متّبعًا (نشهد اليوم أقصى تجلّياته في غزة) لإنزال أشدّ الألم بالمدنيين، مثلما يصف تشومسكي الكيان بأنّه “أكثر الآلات الحربيّة تقدّمًا تكنولوجيًا، والأكثر تقهقرًا أخلاقيًا في العالم”، فما أن يتعرّض هذا الكيان المتوحش للتهديد الوجودي حتى يصبح جنونه التوراتيّ ـ التلموديّ ـ الخرافيّ المسعور مبرّرًا لا حَرَج فيه ولا وازع، جنون إجراميّ هستيريّ، يتكبدّه اليوم شعب غزة في البقعة المحاصرة، المنكّل بها، ضمن محرقة تُنقل مباشرةً بالصوت والصورة إلى شعوب الأرض قاطبةً. محرقة لم يعرف الزمن الحديث لها مثيلًا، على أيدي وحوش بشرية تتلذذ بالتنكيل والتقتيل إلى أبعد الحدود.
إن التيارات اليهودية المناهضة للصهيونية تعتبرها مشروعا استعماريا يعتدي على التراث اليهودي الروحي الأخلاقي، كونه ليس مشروعا للسيادة الجغرافية، كذلك تعتبر إسرائيل نظام فصل عنصري استعماري ، يشبه نظام “الأبرتايد” في جنوب إفريقيا خلال مرحلة تاريخية، ويدعو المشاركون لتشكيل ائتلاف يهودي فلسطيني أممي بغية إسقاط هذا النظام الفاشي، لذلك تتعزز الشرعية السياسية للنضال الفلسطيني على المستوى الدولي، خاصة من تيار وداعم محوري، من داخل القومية الدينية، التي تزعم الصهيونية التحدث باسمها، وهو تيار يضم حضور أكاديميين يهود مميزين معروفين في أمريكا وأوروبا، يرفضون ارتكاب الصهاينة للفظائع باسم اليهود، واسم الشرعية الدينية.
تعتبر الظرفية الزمكانية التي نظم فيها هذا المؤتمر من الأهمية القصوى، سواء بالنسبة للفلسطينيين ومناصري حقوقهم أو بالنسبة للصهيونية العالمية وداعميها التي تعتمد ايديولوجيتها على سيميوز دلالات الأحداث والأمكنة والأسماء والأشخاص، حيث نلاحظ استعمال الكيان الغاصب لمصطلحات على عملياته العدوانية لما تحمله من دلالات، انطلاقا من خرافات توراتية مزعومة. فمن حيث الزمان فإن انعقاد هذا المؤتمر في مرحلة تشهد إبادة جماعية للمُجَوَّعين المُقَتَّلين بغزة في حرب طاحنة منذ سنتين له دلالات كثيرة، كذلك الأمر بالنسبة إلى مكان انعقاد المؤتمر فيينا، عاصمة النمسا مسقط رأس تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية، وصاحب كتاب عن دولة اليهود، الذي يعد الميلاد التاريخي لدولة بني صهيون، ثم نظم المؤتمر الأول للصهيونية بمدينة بازل السويسرية سنة 1897 الذي أعلن فكرة اتخاذ فلسطين كبلد لقوميتهم الدينية واتخاذ كل الوسائل والإجراءات لتحقيق ذلك الهدف، لذلك فإن تنظيم مؤتمر يهودي في المكان نفسه “فيينا”، يعد ردا قاسيا لليهود العقلاء على الولادة غير الشرعية للكيان اللقيط، بمؤتمر مناهض لايديولوجيته ودحضا لمزاعمه، وكشفا عن زيف الرواية الصهيونية، وتمرد منظم عليها، فلم يكن عبثاً أن يعُقد هذا المؤتمر في فيينا إذ علق أحدهم متهكما: “هنا وُلد هرتزل، وفي القاعة المقابلة ماتت فكرته.
لأول مرة في مؤتمر دولي، تقدم شهادات، ويعتلى المنصة يهود لفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، إذ يصرح يهوديٌ نجا من الهولوكوست/المحرقة قائلا إن إسرائيل ترتكب فظائع باسمنا، وفي موقف غير مسبوق يقول “ستيفن كابوس” (وهو ناجٍ من الهولوكوست) إن “من عاش جحيم النازية لا يمكن أن يصمت عما تفعله إسرائيل اليوم في غزة”. فيما تقول داليا ساريغ (المُنظِّمة الرئيسية للمؤتمر): “نحن يهود ضد الصهيونية، نرفض أن تٌرتكب جرائم باسمنا، ونقف مع الفلسطينيين كجزء من التزامنا بالعدالة، وهذا “إيلان بابيه” وهو مؤرخ يهودي مشارك في المؤتمر يؤكد على أن “ما تقوم به إسرائيل ليس مجرد احتلال بل استعمار إحلالي وأبارتايد وجرائم تطهير عرقي لا جدال فيها، كذلك في خضم المناقشات تدخَّل أحد الحاخامات الحريديين متضامنًا مع الفلسطينيين بلغة عربية أنيقة قائلا “أنتم يا أهل غزة أشجع من بني إسرائيل أيام فرعون، حقا لقد كانت هذه المواقف والرسائل غير المسبوقة، سابقة مميزة في تاريخ الصراع بين العرب والصهاينة.
أصدر المشاركون في المؤتمر “إعلان فيينا” الذي صاغ مواقف غير مسبوقة من تيار يهودي مناهض للصهيونية، ومن أهم مخرجات هذا المؤتمر:
- التأكيد على رفض ادعاء الصهيونية تمثيل يهود العالم وإدانة استخدام اليهودية كأداة للاستعمار والفصل العنصري والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني
- تجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، و إلى إحياء المقاطعة الأكاديمية والثقافية ضد المؤسسات الإسرائيلية
- دعوته إلى تفكيك النظام الصهيوني بوصفه نظاما عنصريا استعماريا لا يمكن إصلاحه، بل يجب إزالته بالكامل
- – محاسبة إسرائيل وقادتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، والدعوة إلى توسيع مفهوم الجرائم ضد الإنسانية لتشمل الاستيطان والحصار
- تبنى المشاركون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ورفض حل الدولتين باعتباره غطاءً لتكريس الاستعمار
- التأكيد بشكل صريح على مشروعية المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها، واعتبارها مقاومة مشروعة ضد استعمار عنصري من أجل تحرير الأرض من البغاة.
- ملاحقة الحكومات الغربية المتواطئة في الإبادة الجماعية، وتحقيق العدالة التاريخية بحق العودة للاجئين الفلسطينيين
- هاجم المؤتمر الولايات المتحدة لدعمها اللامحدود لإسرائيل، وهاجم ألمانيا لاستخدامها المحرقة لتبرير دعمها السياسي والعسكري، وهاجم فرنسا والنمسا لقمعهما الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين بدعوى مكافحة معاداة السامية، واعتبره تواطؤا مخزيا يضفي الشرعية على جرائم الكيان الغاصب بحق الفلسطينيين الأبرياء
- جاء في البيان الختامي:” العار كل العار على حكومات الغرب التي تُبرر الإبادة وتقمع التضامن مع الضحايا الفلسطينيين.. “
صحيح أن هذا الموقف لن يغير سلوك نتن ياهو وعصابة حكومته النازية، لكنه تحول جذري يخرق إدعاءات الصهاينة بشأن إجماع اليهود على المحرقة التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني، علاوة على أنه يكسر سطوة الصهاينة على المشهد السياسي الدولي، ويفضح جرائمهم الوحشية في فلسطين والمنطقة بأسرها، ينضاف إلى حالة الرفض العام الذي انخرط فيه كل الشرفاء في الدول الغربية، الذين ينظمون بشكل مستمر المسيرات والمظاهرات الداعمة للحق الفلسطيني، الرافضة لحرب الإبادة على نساء وأطفال غزة، أما شعوبنا العربية والإسلامية فكأن القضية الفلسطينية لا تعنيها، وكأنه لا روابط دينية أوتاريخية أو لغوية أو جغرافية أو حتى إنسانية تجمعها بأرض الإسراء والمعراج، فقد سلبت منها الحياة، فهي في سبات عميق دون حراك، يصدق عليها قول الشاعر العراقي معروف الرصافي:
يا قوم لا تتكّلموا إن الكلام محرَّم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلاّ النُوَّم…
والعَدلَ لا تتوسَّموا والظلمَ لا تتجَّهموا