سلسلة غزاويات طوفان الأقصى (4) – نورالدين الهادي

عقيدة القتل عند بني صهيون

الحياة نعمة ربانية يهبها الله لمخلوقاته لينعموا بما يغدق عليهم من نعم وآلاء حسب شرعه الذي ارتضاه لهم، دون ظلم لبعضهم، على اعتبار تضارب المصالح بين الناس وتنافسهم حول متاع الدنيا بحق وبدونه، ونزوع بعضهم إلى استعمال العنف بل إلغاء الآخر وإن أدى ذلك إلى إعدامه من الوجود، ولا يحق لأحد مهما، كان أن يحرم أحدا من هذه النعمة الربانية، لذلك يروي القرآن الكريم قصة إبني آدم بتفصيل، وما أدى إليه الخلاف بينهما إلى قتل أحدهما للآخر، فكشف القرآن الكريم بشاعة وشناعة جريمة القتل، وهو أول حادث عدواني متعمد في تاريخ البشرية لم يكن له مبرر، وأكد على ضرورة التصدي لمرتكبها بالحزم اللازم من أجل صيانة الحياة والنفس البشرية، وحماية المجتمع الإنساني من ظواهر الغلو والشر الذي  يمارسه بعض البشر، من أجل ذلك قضى الله تعالى أن قتل نفس واحدةٍ كبيرةٌ عظيمة تعدِل جريمةَ قتل الناس جميعا، فقتل واحدة من النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته الذي تشترك فيه كل النفوس، بل هو اعتداء على حق الله الذي وحده يحيي ويميت، كذلك جعل دفع القتل والمحافظة على أرواح الناس عملا عظيما يعدل إنقاذ الناس جميعا، ومن أجله حرم الله عز وجل وشرع لأمة بني إسرائيل بسبب ذلك أكبر تشريع عرفته البشرية منذ نشأتها وهو حرمة قتل الأنفس ( مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) المائدة/32، ولعل ذكر هذا الحدث الخطير في تاريخ البشرية الأول وربطه بتشريع إلهي عُني به بنو إسرائيل قبل غيرهم، له من الدلالات العظيمة التي ترتبط بسلوك هذه الأمة التي ميزت تاريخ البشرية، وتحدثت  بشأنها العديد من السور والآيات في القرآن الكريم، بسبب إسرافهم ومدوامتهم على القتل وتلذذهم به.

إلا أنه رغم هذا التشريع الإلهي بحرمة قتل الأنفس فإن تاريخ بني إسرائيل حافل بالقتل منذ العصور القديمة، بل إنهم عمدوا إلى قتل أنبياء الله المرسلين إليهم، ونعتوهم بأرذل النعوت، وأساؤوا الأدب مع الله خالقهم ( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) آل عمران/181، إنها عقيدة قديمة تنطلق من قدسية عنصر بني صهيون، جعلتهم يعتبرون أنفسهم “شعب الله المختار” وغيرهم من البشر “غوييم”، يجب أن يكونوا في خدمة هذا الشعب. إن عقيدة الاصطفاء والاختيار هي القاعدة الأساسية في تعامل بني صهيون مع الآخرين، وقد جاء في التلمود: ” نحن شعب الله في الأرض، سخر لنا الحيوان الإنساني، وهو كل الأمم والأجناس سخرهم لنا لأنه يعلم أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع أعجم كالدواب والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل الشرق والغرب”، وانطلاقا من هذه الرؤية والشوفينة المقيتة يقول بنيامين نتنياهو عن الجندي الإسرائيلي أنه يساوي عالماً بأكمله.

إن قاعدة التميز والتفوق وتقديس العنصر الصهيوني تحكم بناء العلاقات مع الآخر على أساس  الإلغاء، عن طريق الهيمنة والقوة والأمن الإستراتيجي للتجمع الصهيوني؛ وكنموذج لهذا الفكر الشاذ نورد شهادة من حوار نشرته  مجلة “مومِنت” (Moment) اليهودية الأميركية في عددها الصادر لشهرَيْ مايو/يونيو 2009، أجرته مع الحاخام الصهيوني “مانيس فريدمان” حول الطريقة المثلى لتعامل اليهود بفلسطين المحتلة مع جيرانهم من العرب، وكانت إجابة “فريدمان” صريحة مقدما الطريقة الأمثل في التعامل مع الفلسطينيين: “إنني لا أومن بالأخلاقيات الغربية، بمعنى أن عليك ألا تقتل المدنيين أو الأطفال، وألا تُدمِّر الأماكن المقدسة، وألا تقاتل في المناسبات الدينية، وألا تقصف المقابر، وألا تُطلق النار قبل أن يطلقها عليك الآخرون.. إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم… فعند تدمير مقدساتهم سوف يتوقفون عن الاعتقاد بأن الرب إلى جانبهم”، وعلَّل “فريدمان” ذلك بأنه “الرادع الوحيد والحقيقي للتخلُّص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة، وأن تلك هي قيم التوارة التي ستجعل الإسرائيليين النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب هذه الأخلاقيات (الغربية) المُدمِّرة التي اخترعها الإنسان”، فليس عند بني صهيون أي اعتبار لمنظومة القيم الإنسانية العالمية التي اتفقت بشأنها جميع الأمم، هكذا يقدَّم “فريدمان” عقيدته في التعامل الأمثل مع الفلسطينيين الذين ينغِّصون هناء الفردوس الإسرائيلي، على اعتبار الأمر واجبا دينيا وتعليما توراتيا مقدسا لا ينبغي العدول عنه.

انطلاقا من هذا الفكر المتطرف الإرهابي بنى الكيان الصهيوني منظومته الإجرامية منذ تأسيسه على أرض فلسطين، فهو ينطلق من شعار: “اقتلوهم جميعا حتى الرُّضَّع منهم ” ، لذلك ترك الجنود الصهاينة في مستشفى الشفاء بغزة الأطفال الخدج في المحاضن الخاصة دون حليب ولا اكسجين حتى فارقوا الحياة، بعد قصفه واعتقال الأطباء والممرضين، فأي سادية هاته وأية أخلاق عسكرية؟؟

إن عقيدة إلغاء الآخر وتجدّر القتل في فكر وسلوك بني صهيون، يتحول معه كل شيء فلسطيني إلى نوع من أنواع الإرهاب وجب تدميره: المدارس تبني فكرا إرهابيا عند المتعلمين، المستشفيات تضمن الاستشفاء، المساجد تزودهم بالروحانيات، البنى التحتية تساعد الفلسطينيين على الحياة، الأراضي الزراعية سلة غذائية للأعداء وجب تجريفها، الأطفال مشاريع مقاومين يجب قتلهم قبل بلوغ هدفهم، النساء مجرد آلات لتفريخ الأطفال وهم مشاريع “مخربين”، المساكن مجرد مآوي للإرهابيين، فكل فلسطيني “إرهابي مخرب” وجب قتله.

كل شيء يبرر تدميره وإعدامه وفق السردية الصهيونية وعقيدتها الدينية، كذلك استعمال كل صنوف القتل المتنوعة، القتل بالتعذيب الوحشي، القتل بالصواريخ والقنابل والرصاص، القتل بالتجويع والتعطيش، القتل بمنع اللقاحات والدواء عن الجرحى والمصابين بالأمراض المزمنة مما يؤدي إلى هلاكهم… وهو ما يؤكده الرئيس السابق لمخابرات الجيش الإسرائيلي أهارون هاليفا: “إنه ينبغي قتل 50 فلسطينيا مقابل كل إسرائيلي قتلته حماس في عملية طوفان الأقصى”، واعتبر أن الفلسطينيين “بحاجة إلى نكبة بين الحين والآخر ليشعروا بالثمن”، لذلك كانت حرب غزة الحالية الأشد تنكيلا منذ احتلال فلسطين، ويعتبرها الصهاينة حربا وجودية وفرصة سانحة للإبادة الجماعية الشاملة لأهل غزة قتلا وتجويعا، حيث حصدت آلة القتل الإسرائيلية في الشهر الثاني والعشرين من الحرب الظالمة أكثر من إثنين وستين ألفا من الشهداء إضافة إلى آلاف المفقودين، كذلك تجاوز عدد الجرحى مائة وستون ألفا، وفق قاعدة حسابية نظر لها (مَجْمَع الحاخامات في إسرائيل) حيث أصدر في 24 غشت 2016، فتوى تحض الجنود الصهاينة على قتل الفلسطينيين، وتقول بالنص:(أقتلوهم.. أبيدوهم بلا رحمة من أجل أمن إسرائيل)، وتنفيذا لذلك يقوم الجنود الصهاينة المتعطشون للدماء بكل سادية بالقتل وارتكاب المذابح على مسمع ومرآى من العالم، وهو ما يؤكده الرئيس السابق لمخابرات الجيش الإسرائيلي أهارون هاليفا حين قال: “إنه ينبغي قتل 50 فلسطينيا مقابل كل إسرائيلي قتلته حماس في عملية طوفان الأقصى”، واعتبر أن الفلسطينيين “بحاجة إلى نكبة بين الحين والآخر ليشعروا بالثمن”.

إن تاريخ بني صهيون مبني خلال قرون على الصراع والقتل والتدمير تجاه الآخرين، وعقيدة القتل هاته، نجد لها تجليات متعددة، حيث يُقتل الزمان بمحو كل ما يؤرخ للآخر، ويقتل المكان بتدمير البنيان وإقامة مستوطناتهم عليه، ويقتل التاريخ بتزويره وتشويه الآخر، ويقتل البشر دون محاكمة، إذ يحكم الجنود والشرطة والمستوطنون المسلحون بالإعدام فورا دون محاكمة، ويقتلون دون رادع أو مساءلة، حيث يتفرد كيان بني صهيون دون جميع الدول بهذا القتل المباشر والتهمة جاهزة: “مخرب”. ويشمل القتل كل الأرض المحتلة سواء داخل الخط الأخضر أو الضفة أو غزة، ولا يسلم من القتل المدنيون والنساء والأطفال والشيوخ والأطباء والممرضون والمسعفون والطواقم الطبية والصحفيون والأكاديميون والمفكرون والسياسيون والمبدعون والفنانون، كذلك تفننت آلة القتل الصهيونية في القيام بالقتل العابر للقارات وخارج الحدود، في حق قادة فلسطينيين من كافة الفصائل قديما وحديثا، في باريس وتونس وبيروت وطهران وقبرص…دون اعتبار لسيادة الدول، إذ ليس لأي دولة في العالم حرمة عندهم، فحيثما وصلت اليد الإسرائيلية بطشت بمخالفيها ومعارضي إيديولوجيتها ومصالحها: القتل والإعدام من الحياة لكل من ليس صهيونيا؛ ضدا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص في مادته الثالثة: ” لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه”.

أما مفهوم السلام لدى بني صهيون، فإنه مفهوم غريب وفريد من نوعه؛ السلام  في الذهنية والمنطق الصهيوني: هو الهيمنة المطلقة على أي شبر يدعي الكيان أنه يوفر له حالة من الأمن و الاستقرار بشكل دائم: على الأراضي التي يسيطر عليها وعلى المناطق المجاورة لها، مع تحقيق الأمن والاستمرارية لكيانه، لذلك فإن “إسرائيل” ليست لها حدود مضبوطة معلومة كباقي دول العالم، كما ليس لقتلها حدود، فحيثما تمددت واتسعت فتلك حدودها، فهي لا تعدم مبررات لقضم أراض جديدة في محيطها العربي بدعوى إنشاء مناطق عازلة، تتحول مع الوقت الى أراض مملوكة لها، وهكذا دواليك، هذا السلام يرتكز على قوة عسكرية وسياسية واقتصادية، مع ضمان الهيمنة على المنطقة وإن تطلب الأمر شن حروب متتالية متزامنة مسنودة بحليفتها أمريكا والغرب، إن حرص بني صهيون على إيقاد الحروب والإفساد في الأرض قد نبه إليه القرآن الكريم في سياق الحديث عن سلوكهم مع الخالق تعالى (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) المائدة/64.

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا ينادي بنو صهيون بالسلام ويمارسون الحرب؟ لعل الجواب المستخلص من الصيرورة التاريخية لبني صهيون عبر القرون هو أن السلام من منظور الإرهاب الصهيوني ليس إلا  الخضوع والخنوع والتبعية لأهواء ونزعات بني صهيون، وهذا ما صرح به وزير الحرب الصهيوني السابق يوآف غالانت: بعد غزة سيكون الدور على الدول العربية المجاورة لتحقيق دولة إسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات، وهو توجه تدعمه الإدارة الأمريكية، لذلك يأتي تصريح نتن ياهو يوم الأربعاء 13 يوليوز2025 للقناة24 الإسرائيلية، أنه يقوم بمهمة تاريخية وروحية تتعلق برؤية إسرائيل الكبرى، ليحقق الشرق الأوسط الجديد، وبذلك يعلن عن الدولة الثيوقراطية الجديدة، بعيدا عن الصورة الأوروبية العلمانية التي لطالما حاول الإسرائيليون تسويقها بدهاء ومكر أمام العالَم، ويرفض قيام دولة فلسطينية ولو على جزء من فلسطين المقسمة، كذلك يعلن عن تحلله من أي التزامات مسبقة لدولته سواء مع دول الإقليم أو العالم، وتتبخر اتفاقيات “السلام ” المبرمة معهم، بل إن تصريحه يعد بمثابة إعلان حرب على كل دول الجوار.

هي إذن إدعاءات وتصريحات تحريضية عبثية واستفزازات تعرض المنطقة للمزيد من العنف والفوضى، كذلك هو توجه رافض لتبني خيار السلام بالمنطقة والإصرار على التصعيد، إنه امتداد لنهج الاحتلال القائم على الغطرسة وتأجيج الأزمات والصراعات والتعدي السافر على سيادة الدول والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، فالصهاينة في فلسطين  لا يكترثون ولا يأبهون لما يصدر عن العالم من انتقادات واحتجاجات، والتلويح بالاعتراف بدولة فلسطين، وحتى إصدار قرارات من الهيئات الدولية سواء تعلق الأمر بمجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو المحكمة الدولية، بل إن الكيان الغاصب ليس له دستور يمكن أن يكبله، فهو يعتمد على قوانين يصدرها الكنيست؛ يمكن تغييرها وقتما شاء واقتضت مصلحة بني صهيون ذلك.

إن استنبات كيان لقيط غريب وسط المنطقة العربية والإسلامية كان من أجل إلهاء وإشغال العرب والمسلمين بسرطان جاثم في فلسطين، ينخر دولهم طولا وعرضا بالحروب والتطبيع والعلاقات  الثقافية المشبوهة تحت غطاء تسامح الثقافات والأديان، وتكبيل أيدي الدول العربية باتفاقات سلام تلزمها وحدها، وفرض وصاية العدو الصهيوني وشروطه، بينما يتحلل منها هو في أي لحظة حسب مصالحه، لتبقى الأجواء مفتوحة أمام أي عدوان صهيوني لضرب جميع مواقع دفاع دول المنطقة، واستباحة أجوائها وأراضيها تمهيدا لمزيد من العدوان والتوسع وضم أراضي جديدة بالقوة والمزيد من القوة والإثخان في الإبادة والقتل بكل فاشية ونازية وسادية.

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى