سلسلة غزاويات طوفان الأقصى – نورالدين الهادي

(ويتخذ منكم شهداء)
سؤال كبير ذلك الذي يطرح عند الحديث عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في سائر مناطق فلسطين: الخط الأخضر والضفة الغربية وقطاع غزة المنكوب، منذ أن قررالاستكبار العالمي تمكين بني صهيون من تأسيس كيان غريب عن المنطقة، ومنذ تلك اللحظة يقوم الاحتلال بالمذبحة تلو الأخرى دون حسيب ولا رقيب، ولا اعتبار للمبادئ السماوية أو القوانين الدولية، بل لم يقتصر العدوان على شعب فلسطين وحسب، وإنما تعداه إلى كل دول الجوار، ديدنهم الحرب تلو الحرب دون كلل ولا ملل، من أجل تكريس قوة بني صهيون وشيطنة كل قوة مغايرة، فالصهاينة لا يعدمون مبررا للاعتداء واقتراف جرائمهم.
وفي وقت استيأست الشعوب العربية والإسلامية وشرفاء العالم من إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، الأمر الذي جعلها تدخل حالة جمود خطيرة على المستوى العالمي، وبعد أن أخذ تطبيع العدو الصهيوني مع الحكام العرب مسارا ينبئ بإقبار القضية إلى الأبد، وصار هؤلاء حماة هذا الكيان الغاصب، ولم تتوقف خطيئات هؤلاء على التخاذل، بل صار العديد منهم يتآمر على الشعب الفلسطيني ومقاومته، سواء بتشديد الحصارعلى غزة أو بالتنسيق الأمني مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في الضفة، أو عبر التطبيع الكامل والشامل بشكل معلن أو خفي.
فجر السابع من أكتوبر2023، استيقظ العالم على وقع هجوم مفاجئ كاسح سريع من مختلف قوى المقاومة الفلسطينية، على بلدات غلاف غزة فأدى إلى مقتل المآت من قطعان بني صهيون، لقد كان هذا الحدث نقطة تحول تاريخية في هذا الصراع، حيث أعاد للقضية توهجها وأصبحت حديث الساعة بامتياز، والحق أن طوفان الأقصى قد أعاد للأمة ثقتها بنفسها وبإمكانية دحر العدوان وكسر هيبته، مثلما أعاد للقضية الفلسطينية مركزيتها وأهميتها، بل عمل على إعادة اهتمام جميع شعوب العالم بهذه المأساة التي عمرت طويلا، وتوحيد طاقات الأمة وتوجيه بوصلتها نحو فلسطين وإرجاع الأمل في التحرير الشامل لأرض فلسطين، وأدى الى إسقاط الردع الاسرائيلي وتفوقه المزعوم، كذلك جعل الطوفان دولة بني صهيون في الحضيض، وكيانا منبوذا من الدول والمنظمات التي تقيم اعتبارا لحقوق الإنسان وللقوانين الدولية، مؤداه عزلة دولية ثم الانهيار الشامل خلال المراحل القريبة القادمة.
لقد كان رد رئيس الحكومة السادي نتن ياهو عنيفا، حيث عمد الجيش الصهيوني إلى شن حرب جنونية على غزة، دمر خلالها غزة بكاملها، بما فيها المباني والمستشفيات والمدارس والمساجد والمؤسسات الرسمية والاجتماعية وكل البنى التحتية، إذ مازالت طواحينه الحربية تبيد عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ والشباب، إضافة إلى عشرات الآلاف من المعطوبين والجرحى، وتنويع أشكال القتل ضد الأبرياء بالقنابل والتجويع، في إطار حرب إبادة جماعية لم يسبق للتاريخ أن عرف مثيلا لها.
وخلال هذه المأساة والمذابح المستمرة التي يشهدها عالمنا “المتحضر”، ينبري العديد من المرجفين الذين يحاولون إلقاء اللوم على فصائل المقاومة، كونها السبب فيما يحصل، وكأن الصراع بدأ في السابع من أكتوبر وليس من أول يوم قرر فيه بنو صهيون الاستقرار بأرض فلسطين، انطلاقا من قومية دينية مزعومة، وارتكبوا من أجل ذلك المجازر في حق الأبرياء، وتاريخهم الدموي شاهد بالصوت والصورة، عبر سنوات احتلالهم لأرض الأقصى المباركة، فمن كان يظن أن كل هذه المآسي ستمر دون عقاب، فهو جاهل بعدل الله ونصرته لمن ينصره.. بئس الفاعل وبئس الساكت المتفرج.
إن تحرير الأرض من الغزاة لا بد له من ثمن، لقد علمنا التاريخ أنه لم يسبق لحركة تحرير أن انكفأت واستسلمت وتخلت عن واجبها الوطني، مهما قدمت من تضحيات جسام، فإن قُتل أو استشهد قادتها وأبناء شعبها فلكونهم وقود المقاومة والتحرير، وكما يرتقي منهم الشهداء ويصاب الجرحى، فإن العدو يناله ما ينالهم، ويصيبه ما يصيبهم، غير أن المقام عند الله يختلف، إذ يختار المولى ممن يدافع عن أرضه ودينه شهداء، وتلك منزلة عظيمة يُنزلها الله بعض عباده وفق موازين السماء وليس وفق موازين الأرض والناس (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران/140.
فلا يصيبنا الحزن لفقدان هذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى الذين يسقطون في غزة ، أو أولئك الذين يسقطون في الضفة الغربية، والتي يخطط الكيان الغاصب لضمها أيضا، إنها فلسطين وإنه الأقصى المبارك، ولابد من ثمن لتحريرهما من قبضة بني صهيون، ولا بد من تضحية لنيل حظوة الانخراط فيمن يتخذه الله شهيدا ويجتبيه لهذا الشرف الكبير، وإلا سيكون في فئة المتخاذلين الذين نبه الله تعالى من تثاقلهم وحذر من استبدالهم بآخرين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمُ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمُ إِلَى الاَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39) /التوبة، فهل من سهم في هذا النفير العظيم؟
فإذا كان رئيس حكومة الكيان يزعم أنها حرب وجودية، ومن أجل ذلك يحاول إبادة سكان غزة عن بكرة أبيهم، وإجلاء وترحيل من تبقى منهم، ليتفرغ لسكان الضفة، فيعيد بها ما يقترفه من مجازر في غزة، ثم ينتقل إلى الخط الأخضر لهدم المسجد الأقصى المبارك، فإننا نقول له هي كذلك، إنها حرب وجودية ستنهي وجود الكيان لا أن تطيل سيطرته على أرض فلسطين، وسطوته على دول المنطقة، لهذا السبب لن تفلح قنابله وصواريخه الأمريكية في إرهاب الشعب الفلسطيني ومقاومته، ورغم فقدان العديد من قادة المقاومة وعناصرها، فقد استطاعت إعادة بناء قواتها، وتطوير أدائها العسكري، والتأقلم مع مجريات الحرب رغم عدم تكافؤ القوى مع العدو وقلة الناصر، في إطار المحافظة على منظومة القيادة والسيطرة، وفق استراتيجيةِ مركزيةِ التخطيط ووحدة المقاومة ولامركزية وتنوع التنفيذ الميداني.
وعلى الرغم من مرور قرابة سنتين على الحرب، ينبري شباب المقاومة من تحت ركام المباني ومن تحت رماد جحيم هذه الحرب المفروضة على الشعب الفلسطيني، بشجاعة وقدرات قتالية عالية، وروح تعرضية أسطورية، وقدرة متجددة على التصدي والتحدي، وتكتيكات ميدانية مبتكرة، لكبح تمدد القوات الغازية، مع الاستمرار في صنع الوسائل القتالية بقدرات المقاومة الذاتية، وكأن الحرب في بدايتها، وصار شباب المقاومة ينصبون كمائن الموت لاستهداف جنود الاحتلال، الذين يتساقطون بشكل يومي، يظنون أن ملاجئهم ودباباتهم تحميهم من بأس المقاومة (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الحشر/2.
إنه وضع يرفع الروح المعنوية للمقاتلين، كذلك يعطي جرعات صبر للحاضنة الشعبية، ويعطي نفسا إضافيا وقوة تفاوضية في مفاوضات يريد لها نتن ياهو أن تكون هي الأخرى عبثية، وهو انبعاث جديد للمقاومة، ينبه الدول المناصرة لبني صهيون، إلى ضعف هذا الكيان الذي يحارب قرابة سنتين دون تحقيق أهداف واضحة، سوى إبادة الأبرياء وحصد المزيد من القتلى في صفوف جيشه المهزوم الذي دخل أرضا لا يعرف دهاليزها، في الوقت الذي تقاتل فيه الأرض مع أصحابها لمعرفتهم الدقيقة بجغرافيتها، لم تفلح خطة الجنرالات ولا مركبات جدعون ولا غيرها من الخطط العسكرية الصهيونية في القضاء على المقاومة، بقدر ما ازدادت خسائرهم في الآليات والعتاد الحربي وفي أعداد القتلى والجرحى، جراء تنفيذ المقاومة لعمليات نوعية متزامنة بشكل متواصل وبطريقة احترافية، لقد وصل الأمر إلى محاولتها أسر جنود جدد، مما اضطر معه الجيش الصهيوني إلى تفعيل قانون هنبل الذي ينص على أن جنديا قتيلا خير من جندي أسير.
بهذا الأسلوب الجديد غيرت قوى المقاومة قواعد القتال مع العدو، ودخلت الحرب مرحلة جديدة لتأخذ المعركة أبعادا أخرى، زادت من حالة الإرهاق والإنهاك والاستنزاف التي تعاني منها ألوية بني صهيون، إضافة إلى تدني الجاهزية القتالية لدى الجنود الصهاينة، وانتشار حالة اليأس والتخبط بين صفوفهم وصل الأمر إلى انتحار أكثر من خمسين منهم منذ بداية الحرب بسبب صدمات وهول ما يعيشونه في وحل وجحيم غزة، وهو رقم مخيف يلخص الحالة النفسية للجنود الصهاينة، وقد فرضت المقاومة الفلسطينية تبعا لذلك معادلة جديدة، تقضي بأن تكون الكلفة العسكرية للصهاينة أكبر بكثير من أرباحهم في هذه الحرب، عبر استراتيجية الاستنزاف المميت للعدو عسكريا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ونفسيا، وهو وضع لا يستطيع الكيان تحمله لوقت طويل، وهو الذي اعتاد حروبا سريعة تعتمد عنصر المفاجأة بضربات قاصمة لدول المنطقة، هذا النفس والأسلوب الجديدين في القتال يعد تفوقا عسكريا أسطوريا للمقاومة له مابعده.
لعل جميع المتتبعين لهذه الحرب على أهلنا في قطاع غزة، تتكرر على مسامعهم إعلانات جيش الاحتلال اليومية عند كل مقتلة وضربة موجعة يتلقاها من المقاومة، بالحديث عن “وقوع حدث أمني صعب”، أقول لبني صهيون: إن استكبرتم وعلوتم العلو الكبير، خلال ثمانية عقود من الزمن، فانتظروا يوما نراه قريبا، يزيل فيه أبو عبيدة اللثام ليعلن “الحدث الأمني الأكبروالأعظم” إيذانا بانهيار وزوال كيانكم الغاصب، وبتحقق وعد الله ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) الإسراء/7، يومها ستعيش دول المنطقة وشعوبها في أمان وينعم العالم بالسلام.