زلازل آخر الزمان – سهام كنوني
إن المؤمن ليقف مندهشا أمام حجم المصائب والابتلاءات التي تعرض لها الأولون في سبيل هذا الدين، ولينفطر قلبه وتدمع عينه لذلك الثبات الذي أبقاهم على الصراط المستقيم رغم كل المحن التي مرت بهم إلى أن نصرهم الله تعالى، هي ابتلاءات في سائر مناحي حياتهم، وهو اختبار ينجح فيه فقط من لا يسع قلبه شيئا آخر إلا دينه، فلا يشرك في حبه مالا ولا بنين، ولا جاها ولا سلطة، وإنما يسخر كل ذلك فداء لمعتقده.
ولعل خير ما يفسر معنى الاختبار قوله تعالى: ” اَمْ حَسِبْتُمُۥٓ أَن تَدْخُلُواْ اُ۬لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُم مَّثَلُ اُ۬لذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ اُ۬لْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّيٰ يَقُولُ اُ۬لرَّسُولُ وَالذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَت۪يٰ نَصْرُ اُ۬للَّهِۖ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ اَ۬للَّهِ قَرِيبٞۖ” ، جاء في تفسير الإمام السعدي: ” فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي: الفقر {وَالضَّرَّاءُ} أي: الأمراض في أبدانهم {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.”
إن ثقل العبارات وقوة المعاني، تصف حال هؤلاء الصادقين المبتلين في دينهم، وتظهر بذلك حالة الصدق والثبات التي كانوا عليها، وقد بشرهم الله تعالى جزاء ذلك، قال: “ألا إن نصر الله قريب”.
ألا وإن لكل زمن اختباراته وزلزلته التي تكشف معادن الناس وصدق إيمانهم، فالله تعالى حين أنزل هذا الدين لم يكتب الابتلاء فيه على الجيل الأول الذي نزل فيهم الوحي فقط، بل هي سنة الله السارية على كل خلقه، وهو ما تخبر به الآية الكريمة: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ” ، وذلك من كمال عدالة الرحمان، إذ لو كتب الابتلاء قبل دخول الجنة على قوم دون غيرهم لاعتبروا ذلك ظلما، والظلم مستحيل في حقه تعالى، وفي نفس السياق يقول عز وجل: ” اَحَسِبَ اَ۬لنَّاسُ أَنْ يُّتْرَكُوٓاْ أَنْ يَّقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَۖ” ، ” أَمْ حَسِبْتُمُۥٓ أَن تَدْخُلُواْ اُ۬لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اِ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ اَ۬لصَّٰبِرِين”.
فعلى المؤمن عند اندهاشه بصبر السابقين الأولين، وربما تمنيه معاصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم، حتى يكون له نصيب من بطولاتهم يؤهله لذلك المقام، عليه ألا ينس نصيبه من الاختبار المكتوب على البشرية، ولا ينس أن للزمن الذي يعيشه زلزلة لا تقل قسوة عن تلك التي مر بها الأولون: هي زلزلة الفتن، زلزلة الغفلة وشيوع الفاحشة، زلزلة غربة الدين والماسكين عليه، زلزلة قلب المفاهيم، وغدو المنكر معروفا والمعروف منكرا.. إضافة إلى زلزلته الخاصة، والتي قد تعصف بكل معايير الحياة السعيدة كما رسمتها مخيلة المجتمع الذي ينتمي إليه، فيبتلى في صحته أو أبنائه أو ماله ليختبر الله صدق إيمانه.
وإن الله تعالى لا يحب أن يُعبد على شفا حفرة، أو جرف هار إذا مست العبد حاجة أو سرور أقبل عليه معتزا بقوة إيمانه، وإن مسته ضراء أو خير بين دينه وشهوة أو مصلحة دنيوية أخر الإيمان والدين إلى حين قضاء حاجاته، واستواء خيوط حياته واعتدالها، مع ما في ذلك من تعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، قال تعالى وَمِنَ اَ۬لنَّاسِ مَنْ يَّعْبُدُ اُ۬للَّهَ عَلَيٰ حَرْفٖ فَإِنَ اَصَابَهُۥ خَيْرٌ اِ۪طْمَأَنَّ بِهِۦ وَإِنَ اَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِ۪نقَلَبَ عَلَيٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ اَ۬لدُّنْي۪ا وَالَاخِرَةَۖ ذَٰلِكَ هُوَ اَ۬لْخُسْرَانُ اُ۬لْمُبِينُۖ ” .
إن عدم إبصار المؤمن للغاية من وجوده، وغفلته عن الاختبار الذي يمر به يجعله منساقا وراء الشهوات في ضعف فضيع مؤجلا التوبة لأجل غير مسمى، أجل تستبد به الشهوات وتنقضي فيه الزلزلة التي تؤز إيمانه أزا، متناسيا أن الصبر يكون عند المحنة، وأن الثبات محله وقت الاختبار لا بعده؛ إذ يأتي بعد انتهائه وقت النتائج والحصاد، وهو وقت لا ينفع فيه صبر ولا سعي ولا عطاء.
فليحرص الواحد منا على إيمانه وليترك الزلازل تضرب كما تشاء مثبتا صدقه وغناه بالله عمن سواه.