رمضان معجزة إصلاحية.. ولكن
(وأن تصوموا خير لكم) [البقرة:183]، هذه الآية تبين أن الصيام خير مطلق ومصلحة مقطوع بها للفرد والجماعة، بل هو مصلحة بشرية خالدة ثابتة تشابهت فيها الأمم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)[البقرة: 183]، قال ابن عاشور في تفسيره: وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها. ولهذا فرمضان شهر الإصلاح والإحياء كسائر الشرائع الإسلامية، قال تعالى:”يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” [سورة الأنفال24] ، ولا بد من تتبع أوجه ذلك ومكامنه ومعيقاته.
لماذا رمضان معجزة إصلاحية؟
رمضان منظومة ربانية تهدف إلى إيجاد حالة إنسانية مجتمعية راقية من الصلاح والقطيعة مع الفساد، عن طريق تحرير الإنسان من الآسار الظاهرة والباطنة، المادية والمعنوية، التي تحاصر اختياراته ومواقفه وسلوكه. وهذا هو المقصد الأكبر لرمضان المعبر عنه في القرآن بالتقوى، وهي أرفع مستوى بشري يكون فيه البشر أقوى على فعل الصلاح وأقوى على القطع مع الفساد، في جميع مجالات الحياة.
وهذه الحالة الراقية من الصلاح والقطع مع الفساد تتجدد كل رمضان لتستمر خلال بقية السنة، فهي صوم مؤقت عن الفساد والمنكرات يراد به أن يكون صوما سرمديا دائما بعد رمضان، ولهذا عطفت آيات الصيام في القرآن بآيات تنهى عن الفساد المالي وأكل المال بالباطل. فمن يمتنع عما هو له خلال رمضان يرتقي إلى أن يمتنع عما ليس له في رمضان وغير رمضان، ولهذا فهو مضاد حيوي ضد الفساد على حد تعبير أستاذي الريسوني.
فهو إذا “تحرير للنفس الإنسانية من قيود العادات وأدران الشهوات وتقوية للإرادة في الخير حتى تنتصر دائمًا على نزعات الشر، وفيه بعد ذلك مآرب أخرى، وإن أسمى ما يحرص عليه الإنسان أن يكون حرًا مريدًا وبذلك يمتاز عن الحيوان، ومَن تحرر من أهواء نفسه فقد ملك أمره “. (حسن البنا).
وحق لمصطفى الرافعي أن يقول:”يتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتّقي بها المجتمع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم”.
ولهذا فرمضان “معجزة إصلاحية” على حد تعبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، وهذا المعنى مشار إليه في القرآن حيث ختم الله آيات الصوم بقوله {كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، فالصيام آية من آيات الله ولا ريب.
وقد لخص د. بول براج وابنته باتريكا دور الصيام بكلمة “المعجزة”، وذلك في كتاب مشترك طبع بأمريكا بعنوان ( معجزة الصيام..مثبت على مدار التاريخ تجديده الشباب البدني والعقلي والروحي The Miracle of Fasting..Proven Throughout History For Physical, Mental & Spiritual Rejuvenation)، وبينا أن الصيام ميلاد جديد للصائم. يقول د. Brag في خاتمة مقدمة الكتاب عن الصيام:”ستشعر بأنك شخص جديد، ستكون منظفا، ومصفى، ومولودا من جديد”، وقالت ابنته في ختام مقدمتها:”الصيام يعطي معجزات صحية عظيمة روحيا، وعقليا، وعاطفيا، وبدنيا”.
وهكذا فالإصلاح الذي يكون في رمضان وبسبب رمضان عميق شامل متنوع، فهو إصلاح روحي تربوي، وإصلاح علمي ثقافي، وإصلاح أخلاقي، وإصلاح اجتماعي، وإصلاح اقتصادي، وإصلاح سياسي. وفيما يلي وقفة مع هذه الأدوار الإصلاحية الرمضانية.
الإصلاح الروحي
رمضان مدرسة سنوية في إصلاح الذات، عنوانها أن تسمو الروح على الجسد، والمبدأ على الهوى، والنفس المرضية على النفس الأمارة بالسوء، ويمتنع الفرد عن بعض الشهوات الحلال، فما بالك بالشهوات الحرام، والفرد في ذلك حر لا يستطيع أن يضغط عليه أحد، ولا أن يراقبه أحد، ولهذا فالصيام التزام فردي خالص لا تشوبه شائبة الرياء أو الإكراه ولو كان اجتماعيا في توقيته وبعض توابعه، ولهذا نسبه الله تعالى لنفسه، ففي الحديث عند البخاري: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها). وهذه الرقابة الإلهية، وهذا السمو الروحي هو الإصلاح الذي يحدثه رمضان في الصائم، وهو السر العظيم لرمضان، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السر العظيم في قوله:”من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه أي تصديقا بفرضيته وبخيريته، واحتسابا للأجر من الله تعالى وحده.
ولا شك أن هذا الإيمان والاحتساب والارتباط بالله، ينعكس – بحسب قوة العوامل الإصلاحية الأخرى غير الصيام- على الإيمان والاحتساب في الأفكار والمواقف والأعمال والوظائف والعلاقات، والحياة والممات. فالصائم إيمانا واحتسابا إذا كان عالما اجتهد وبلغ رسالات الله إيمانا واحتسابا لا يخشى في الله لومة لائم، وإذا كان مفكرا فكر إيمانا واحتسابا، وإذا كان مزارعا زرع إيمانا واحتسابا، وإذا كان صحفيا كتب إيمانا واحتسابا، وإذا كان وزيرا عمل إيمانا واحتسابا. ولا شك أن من يعمل ويدع، ويفكر ويبدع، إيمانا واحتسابا، سيكون حرا طليقا منطلقا، وستكون إرادته أقوى، وعزيمته أمضى، وصبره أسمى، وأداؤه أرقى، فإنه يتعامل مع الله قبل أن يتعامل مع البشر. وهذه هي الروح الحرة التي يحييها ويوقظها الدين عموما. فإن “المطامع أساس الاستعباد والشهوات قيود الأسر، وأساس الحرية الاستغناء، والاستغناء يستتبع المشقة، ولكنها مشقة عذبة لذيذة لأنها ستنتج الحرية، والحرية أحلى من الحياة” (حسن البنا).
ويقظة الروح وتحريرها هو جوهر تغيير ما بالأنفس الذي هو القانون الأول في النهضة والإصلاح.”ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر:(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ([الرعد:11] .. فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح، حياة القلوب، صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر، نحن نريد نفوسًا حيةً قويةً فتيةً، قلوبًا جديدةً خفَّاقةً، مشاعر غيورة ملتهبة مضطرمة، أرواحًا طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مُثُلاً عليا، وأهدافًا ساميةً لتسمو نحوها” (hassanelbana.com/news.php?action=view&id=156)
ولكن هذا الإصلاح الروحي يضعف ويقوى بحسب قوة وضعف الصائمين وبيئاتهم، وأحظهم نصيبا فيه صفوة “أدوا ما أمرهم الله به من صلاة وصيام وتلاوة وقيام ومسارعة إلى الخيرات وإحسان وصدقات، ولكنهم لم يقفوا عند ظواهر الأعمال بل فهموا عن الله فيها، وعرفوا ما يراد بهم منها، وتغذت بصائرهم إلى لباب أسرارها، فعرفوا لرمضان معنى لم يعرفه غيرهم وفازوا بربح لم يفز به سواهم، واكتسبوا منه تزكية النفوس وتصفية الأرواح. وأولئك خلاصة المؤمنين وصفوة العارفين” (مقال رمضان شهر الحرية لحسن البنا).
الإصلاح العلمي والثقافي
بعد أن طلب الله تبارك وتعالى الصيام من المؤمنين، ثنى بمدح شهر الصيام بأنه ” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”[البقرة:185]، وهذا فيه إيماء إلى أن رمضان هو شهر القرآن كما هو شهر الصيام، ولهذا فإن رمضان هو حملة سنوية من أجل تجديد ورفع الوعي بالقيم المثلى في القرآن، الذي هو كتاب التغيير والإصلاح الأول في العالم كله والتاريخ كله، فهو يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وفيه الهداية التي لا نظير لها للبشرية. وجعلت صلاة القيام والتروايح سنة مؤكدة من أجل القرآن، ولتكون وسيلة جماعية أو فردية للاتصال بالله والاتصال بالقرآن، ففي الصحيحين (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). و”السنة فيها الإطالة ، وليس الغرض سرد العدد فحسب كما يفعله كثير من الناس الآن مع الإسراع المخل ، وفاتهم أن النظر في التراويح إنما هو المتعة بكتاب الله وهو السر فيه”(حسن البنا). وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ” أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين” أي العام الذي توفي فيه، متفق عليه.
ولهذا يتوسع المسلمون في مدارسة القرآن، وفي الدروس العلمية في رمضان ما لا يتوسعون في غيره، ومن السنن الحميدة في عصرنا الدروس الرمضانية للملك في المغرب، وقد استن بهذه السنة عدد من الملوك والرؤساء العرب. وهي من بركات رمضان. ومن السنن الحميدة أن العلماء إذا جاء رمضان تركوا ما هم فيه واعتكفوا على مدارسة القرآن. ومنها أيضا نشر عدد من الكتب الجديدة في شهر رمضان في الصحف وغيرها. ومنها أيضا إنتاج عدد من الأعمال الدرامية والفنية الرصينة التي تترجم قيم الإسلام دراميا ومسرحيا وفنيا، وهي أدوات مؤثرة أيما تأثير في غرس القيم الصالحة. وإذا فإن الميدان العلمي والثقافي الرصين يزدهر في هذا الشهر الكريم، وهنا أذكر ببعض الأحداث العلمية والدينية البارزة في رمضان في التاريخ الإسلامي، ومنها: بناء مسجد القيروان على يد عقبة بن نافع في العشرين من شهر رمضان 51 هـ الموافق 29 سبتمبر 671 م، والشروع في حفر أساس جامع القرويين في الأول من رمضان عام 245هـ، 30 نوفمبر عام 859م، ووضع حجر أساس الجامع الأزهر في 14 رمضان سنة 359 هـ / 970م.
الإصلاح الأخلاقي
رمضان تدريب سنوي لمدة شهر كامل من أجل تحسين الأخلاق العامة، وخفض المشاكل والجرائم ، فحقيقة الصيام أنه جُنَّة كما في الصحيحين، قال النووي: “أي: سترة ووقاية ومانع من الرفث والآثام والمعاصي، كما أنه كذلك مانع من النار”. ولهذا فقانون السلوك والتعامل للصائم هو: “فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم مرتين” حديث متفق عليه. فالصائم ممنوع من الأخلاق السيئة، بل ويكره للصائم حتى الرد على الأخلاق السيئة باستخدام حقه في الجهر بالسوء لو ظلم، وجزاء السيئة بالسيئة، بل يقول مذكرا نفسه ومخاصمه: إني صائم إني صائم. وأثر هذا الإصلاح الأخلاقي في رمضان لا شك سيمتد إلى غيره من الشهور، لا سيما لمن صام إيمانا واحتسابا، وظل مؤمنا محتسبا.
الإصلاح الاجتماعي
رمضان حملة سنوية لتعزيز التضامن الاجتماعي، من خلال وسائل إجبارية وأُخَرَ مندوبة، فأما الإجبارية فهي الصيام الذي هو حرمان مؤقت يعزز قيمة التراحم والتعاطف مع المحرومين ومشاركتهم في إحساسهم ومعاناتهم، وهي وسيلة نفسية، و”من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السرّ الاجتماعي العظيم في الصوم” على حد تعبير مصطفى صادق الرافعي، وقد أضاف إليها الإسلام وسيلة إجبارية مالية وهي زكاة الفطر التي هدفها التضامن العام الإجباري مع الفقراء. وأما الوسائل المندوبة المحققة للتضامن فأهمها الإنفاق المطلق، وقد جعل الرسول للإنفاق في هذه الشهر مزية ليست في غيره، وأضحى سنة محمدية في رمضان، فعن ابن عباس قال:”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل عليه السلام، كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة”. متفق عليه.
كما يعزز رمضانُ قيمةَ التضامن الاجتماعي بالحض على صلة الرحم وصلة الأخوة، والرحم من الرحمة، والأخوة أعلاها الإيثار وأدناها سلامة الصدر كما قال حسن البنا. والصائم الذي يحب أن يرفع جوعه وعطشه، وقيامه وسهره، وإنفاقه وبره، إلى الله تعالى، لا بد أن ينهي خصوماته، ففي صحيح مسلم:” تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا”. ولهذا فرمضان ” شهر المواساة” كما في صحيح ابن حزيمة وغيره.
الإصلاح الصحي
لقد قال الله تعالى عن الصيام (وأن تصوموا خير لكم) [البقرة: 184]، وهذا يعني أن صيام رمضان خير للصحة كما لغيرها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:”الصيام جنة” فهو يشمل الوقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات كما قال ابن عاشور. ويكفي للدلالة على الإصلاح الصحي الذي يقوم به الصيام أنه أمر معروف دائما في تاريخ البشرية.
وقد لخص د. بول براج وابنته باتريكا الدور الصحي بكلمة “المعجزة”، وبينا أن الصيام ميلاد جديد للصائم. ونقلا في أول صفحة عن كتاب (الصيام أسلوبا للحياةFating as stile of life ) لـ Patrica Bragو Allan Cott فوائد للصيام؛ منها:
– يجدد الثقة في النفس وفي الله.
– هو أسهل من أي حمية، وأسهل طريق لنقص الوزن إلى 10 باوند (= حوالي 5 كغم) أو أكثر في الأسبوع الأول.
– يضبط الحياة المشغولة، ويسرع إعطاء الجسم راحة نفسية.
– يستخدم علاجا ناجحا لعدد من الأمراض.
– يزيد عادات الحمية الغذائية، ويزيد متعة الأكل الصحي.
– مهدئ ، وعادة ما يخفف التوتر والأرق.
– يحث في العادة مشاعر النشوة إلى المستوى الطبيعي.
– معجزة تشبيبية، ويبطئ عملية الشيخوخة.
– منبه طبيعي لتشبيب نمو مستويات الهرمون.
– منشط وليس مفترا.
– منظم ومعلم للجسد أن يستهلك الطعام حسب الحاجة.
– روتين في مملكة الحيوان.
– ممارسة معروفة من بداية الوجود البشري.
– تحت الشروط السليمة هو آمن قطعا.
– الصيام ليس تجويعا، بل شفاء طبيعي منحنا إياه الله.
وفي كتابه الشهير (الإنسان ذلك المجهول) يقول الدكتور الكسيس كارل الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة: (إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس البشرية وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصيام أحياناً).
الإصلاح الاقتصادي
يسهم رمضان في الإصلاح الاقتصادي عن طريق معادلة تقوم على تنمية تقدير السلع والنعم عن طريق الحرمان منها خلال الصوم، مما يزيد في حفظها، كما أن الصيام خلال ساعات طويلة يؤدي قطعا إلى خفض الاستهلاك الخاص والعام، كما يفترض أن يؤدي إلى زيادة إنتاجية الفرد حيث أن وقته خلال النهار غير مشغول بالطعام والشراب وتوابعهما، وألاحظ -شخصيا- أن إنتاج الموظفين يزيد، وانشغالهم المعطِّل للعمل يقل، ويمكن عمل دراسة ميدانية للتأكد من المعادلة الاقتصادية الرمضانية التي يفترض أن تكون: إنتاجية أكثر واستهلاك أقل. وإذا علمنا أن شرب الخمر وإخوانه من المخدرات يتوقف في رمضان، وتغلق الحانات، في البلاد الموبوءة بذلك، علمنا أيضا أي فساد اقتصادي وما يتبعه يقوم رمضان بمحاربته وتضييق الخناق عليه، وبدون شك فإن العائدين إلى الخمر أقل قطعا بعد رمضان من الذين كانوا فيه قبله ببركات سيدنا رمضان.
ولا ننسى هنا الإصلاح الاقتصادي الذي تقوم به زكاة الفطر، وهي وسيلة إصلاحية اقتصادية إجبارية على كل مسلم له فضل مال يزيد عن قوته وقوت عياله حتى لو ولد قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان على رأي وقبل فجر يوم العيد على رأي آخر، وهدف هذه الزكاة كما في الحديث أنها: “طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين” رواه أبو داود وابن ماجه، أي أنها اقتصاديا تقوم بإعادة توزيع الثروات ولو بشكل جزئي، والقضاء النهائي على الفقر في يوم العيد، ولو فرضنا أن كل مسلم يدفع دولارا واحدا، نضربه في عدد المسلمين (حوالي 1.93 مليار في 2011 حسب موقع islamicpopulation.com)، وبالتالي نعرف حجم الثروة التي يتم إعادة توزيعها خلال يوم العيد فقط.
الإصلاح السياسي
لا شك أن من لا يصلح نفسه برمضان وفي رمضان، ومن لا يقطع مع الفساد والخراب في رمضان، حاكما كان أو محكوما، فأبعده الله، ففي الحديث “من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قلت: آمين” رواه ابن حبان والطبراني. وهذا الإبعاد الإلهي للفاسدين له تجل في الآخرة كما له تجل في الدنيا، وتجليه في الدنيا أنه واجب على الأمة نحو الفاسدين الذي لا أمل في صلاحهم ولم يرعووا بما شهدوه من رمضانات ولم يستجيبوا لنداءات الإصلاح فيه وفي غيره، وكلما زاد فسادهم وخطرهم وخاب الأمل في إصلاحهم عظم واجب إبعادهم على الأمة، ولا شك أن فساد الحكام أشد وأنكى، ولهذا فإبعاد من لا يرعوي منهم عن فساده أولى وأولى، ولكن لا بد أن يكون ذلك عند أهل السنة بالحسنى.
وهكذا فرمضان امتحان حقيقي لتقييم حجم ودرجة الفساد السياسي، يلي في الأهمية امتحان إقامة الصلاة.
ومن الأدوار الإصلاحية السياسية الأخرى التي تلاحظ في رمضان: دوره في رفع الاهتمام بالشأن العام للمسلمين، سواء المحلي أو الوطني أو الإسلامي والعالمي، ويتجلى هذا الأمر في كثرة الدعاء والقنوت للمسلمين وخاصة المأزومين منهم، ولعل هذا من مقاصد حديث القرآن عن الدعاء في آيات الصيام، كما يتجلى في زيادة الدعم المالي للمضرورين.
وهناك دور سياسي آخر لرمضان هو إسهامه في توفير الدعم الروحي لأي عمل سياسي يحتاج إلى الطاقة الروحية، ولهذا نفهم لماذا تحقق عدد من الانتصارات الكبرى في التاريخ الإسلامي في رمضان بداية من غزة بدر (17رمضان 2 هـ) مرورا بفتح مكة (20 رمضان 8 هـ) والقسطنطينية (12رمضان 850هـ) ووصولا إلى حرب 10 رمضان 1973م.
ولكن.. ما لم يُخرق
في الحديث” الصيام جنة مالم يخرقها”رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي والدارمي، وهذا يعني أن الدور الإصلاحي لرمضان مرتهن بعدم خرقه بالمفسدات سواء من الصائم أو من بيئته. ولهذا جاء في الحديث “من يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” رواه البخاري، “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر” رواه أحمد وابن ماجه والنسائي والحاكم.
نعم، لقد سهل الله تعالى الوظيفة الإصلاحية الإحيائية لرمضان بتصفيد الشياطين ومردة الجن في أول ليلة كما في الحديث عند الترمذي وابن ماجه، أي أن المصدر الأكبر للشر والفساد يغلقه الله تعالى في هذا الشهر، ولكن المصدر البشري للشر باقٍ، وشياطين الإنس طليقة، وهذه نراها تخوض عملية إفسادية ممنهجة في رمضان، ولهذا أصبحنا نرى من الإفساد والفساد ما لا نراه في غير رمضان، فالآلة الإعلامية والفنية تضخ القيم الفاسدة ضخا مهولا، وراءها رؤوس أموال ضخمة، والطاحونة الاقتصادية تحول رمضان إلى موسم استهلاكي بامتياز، وتغري الناس بالشراء والاستهلاك ليل نهار، وتزين لهم وتحتال عليهم بكل سبيل حتى تكاد تفرغ رمضان من مقاصده. ولا شك أن وراء هذا التحريف لرسالة رمضان أهدافا سياسية تسعى إليها الأنظمة المستبدة، وهذا أمر ظاهر للعيان، ولقد جاءت الأخبار من مصر بعد سقوط دكتاتورها المشؤوم بأن أموالا ضخمة كانت ترصد للمسلسلات بهدف إفساد الشعب، وإلهائه، ورمضان هو موسمها المفضل، وصيدها الثمين.
فيا ساهرا ليله في الموبقات أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” رواه البخاري، ويا مبالغا في الشراء والأكل والشراب أما علمت “أن الله تعالى ما فرض علينا صوم رمضان إلا إضعافا للشهوة المتولدة من الأكل، فمن بالغ في أكل الشهوات والدسم في رمضان، فقد أبطل حكمة الصوم في حق نفسه، ولم يَسد مجاري الشيطان من بدنه، فركض فيه إبليس بخيله ورجله فأتلف عليه دينه” (خاتمة الميزان الكبرى للشعراني ص 32-33)
يريدون ليطفئوا نور الله ولكن…
ولكن الأمة لا تموت، وهناك طائفة صالحة مصلحة ضمن الله بقاءها في الأمة في جميع الأزمان، تسعى في إنجاز البدائل لهذه الردائل، والحسنات لهذه السيئات، و(إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)[هود:114]، والعملة الجيدة تطرد العملات الرديئة ولو بعد حين، وإذا كان الإشعاع الإصلاحي لرمضان يزيد وينقص حسب الفرد وبيئته، فهو في جميع الأحوال لا ينطفئ، وسيبقى رمضان مصلحا مشعا إلى يوم الدين (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) [الصف: 8].
د. عبد الحكيم أحمين