ذ.محمد يتيم يكتب: متى نصر الله؟.. معاني تصورية وإيمانية في ضوء العدوان الصهيوني على غزة
تتابع ليلا ونهارا صباحا ومساء، صور الإجرام الهمجي الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وما يترتب عنه من إهلاك للحرث والنسل ،والإفساد في الأرض، نتابعه بقدر كبير من الألم بل من الهم والغم عند كل متابعة لنشرات الأخبار أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. ينتابنا في كثير من الأحيان شعور بالإحباط ، ونحن نشاهد مظاهر الدمار والعدوان وإهلاك الحرث والنسل والإفساد في أرض فلسطين وفي غزة الصابرة الصامدة. ومشاهد الجوع والدماء والأشلاء وتظاهر الأعداء وتقاعس وخذلان الأقرباء من العرب والمسلمين !!
يصيبنا غم، بل زلزال يكاد يعصف فينا برصيدنا من القدرة على التحمل والصبر والاصطبار ..
نكاد نسلم أنفسنا وقد فعل الألم والزلزلة النفسية، و الإحباط أحيانا فعله فينا فنقول كما قال من هو خير منا من الأنبياء والمرسلين والذين آمنوا معهم ” متى نصر الله” ؟ فيأتينا الجواب من القرآن الكريم ” ألا إن نصر الله قريب “. نستعجل النصر كما استعجله الأنبياء والصادقون من أتباعهم، نغالب تلك المشاغر السلبية بأخبار الصمود في غزة الصامدة وإتخان المجاهدين في الغزاة الصهاينة ، لكن الثمن كبير ورهيب.
ويزداد ألمنا وإحساس العجز بنتابنا لعدم قدرتنا أن نقدم إلا الدعاء .. والخروج في مسيرة أو تقاسم خبرا أو تعليق، ونخفف ألم شعورنا بالعجز والتقصير ونحن نتذكر أن حركات تحرير قدمت الأف بل ملايين الشهداء .. ونبني على هذه الحقيقة آملا عريضا وثقة في موعود الله بأن النصر للمقاومة ، كما انتصرت حركات المقاومة على المستعمرين في عدة تجارب في العالم، كما الشأن في حرب فييتنام وفي أوروبا نفسها على النازية، وفي أنحاء العالم العربي والإسلامي على الاستعمار وفي أفغانستان على الأمريكان وجنوب إفريقيا على الأبارتايد.
نشفق من أن تحل بأهل غزة إبادة، كما حلت بشعوب أصيلة أو أن تتم تصفية قضيتهم بمكر الأعداء وتواطؤ الأقرباء، ونحن الذين بنينا على صمودهم ومقاومتهم الباسلة أمل التحرير.. نصاب أحيانا باهتزاز داخلي وزلزلة كبيرة في مشاعرنا ووعيننا، وقدرتنا على التحمل ورؤية مشاهد التقتيل والتدمير.. نبكي حين يبكي الأطفال والنساء وحين يصرخ الرجال من القهر. وبعد دمعة العين نستبشر بأن نفس الرجال بعد الصراخ من القهر والظلم والجوع وقلة ذات اليد وخذلان الأقرباء وتآمر الأعداء يقسمون أنهم جميعا مع المقاومة.
سرعان ما ننتبه بعد هذا كله إلى عدد من الحقائق القرآنية التي كنا نمر عليها، وكأنها تحكي قصصا تاريخية، وهي في الواقع تسطر سننا إلهية في الكون التاريخي، فربنا عز وجل حدثنا عن سنن سرت على من سبقنا، بل إنه قد حدثتا عن حالة نببنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أمره أن يقول :
“قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى وما أنا إلا ندير مبين”. وحدثنا عن الأنبياء والرسل والمجاهدين ممن حملوا راية المقاومة ، بأنه لا استثناء في الضريبة التي يمكن أن نؤدي من أجل التصدي للعدوان كما في قوله تعالى” أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضرا وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر”. فتأتينا البشارة مباشرة ودون انتظار” ألا إن نصر الله قريب”.
فالأنبياء والرسل أنفسهم استبطؤوا النصر، وضاقت بهم السبل وتلاحق عليهم الابتلاء وعاشوا لحظات من الحزن من مكر الأعداء، كما قال تعالى ” قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون” . وفي غمار تلك المشاعر المتناقضة ومن أجل معالجتها تبرز عدة حقائق، بسطها القرآن الكريم وبسطتها التجربة التاريخية حول مصير المواجهة مع الطغيان، ومنها مثلا قصة أصحاب الأخذوذ التي انتهت فيها المواجهة بين الإيمان والكفر إلى أن المجتمع كله آمن برب الغلام ولم ينخدغ بسحر الساحر ، رغم أنه قد أقيمت محرقة جماعية للمؤمنين كما في قوله تعالى ” والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخذوذ النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد “.
هي السورة التي تورد النهاية المأساوية لجماعة مؤمنة في مواجهة مجتمع متجبر ، وقصة الغلام والساحر والراهب لما تنازع في نفسه الاختيار بين امر راهب وأمر الساحر أيهما أولى بالاتباع .. كان الراهب يعلمه الدين وكان الساحر يعلمه السحر. اختبر الغلام مرات كثيرة لكونه اختار طريق الحق؛ طريق الإيمان بالله وكفر بالسحر، وحاول فيها الملك القضاء عليه محاولات عدة .. وكان كلما جرب قتله حصل ما يمنع من ذلك، فلما يئس الملك من قتله قال له الغلام: “: إذا اردت أن تقتلني فأنا أدلك، قال: اجمع الناس على صعيد واحد وعلى أرض واحدة، ثم اربطني في جذع شجرة، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ترميني وقبل أن تفعل، ترفع صوتك أمام الناس وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني بالسهم فإنك بهذا قاتلي.
جمع المك الناس في صعيد واحد، والناس ينظرون، والملك يأخذ سهما من كنانة الغلام و يقول باسم الله رب الغلام ، فيأتي السهم على صدر الغلام ويسيل الدم ثم يموت الغلام. يهلل الناس ويمكرون كلهم يهللون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله رب الغلام، لا إله إلا الله رب الغلام،.. آمنا برب الغلام.. لقد حدث انقلاب جذري لأن الناس آمنوا برب الغلان كفروا بربوبية الملك فيصرخ مستنكرا : أوَ لكم إله غيري ؟ فأمر بحفر الأخاذيذ،واختبار الناس فمن أصر على الإيمان بألوهية غير الملك ألقي به في النار فصارت فتنة شديدة، وصارت محرقة للمؤمنين الرافضين لربوبية وألوهية الملك، قال: احفروا لهم الاأخاديد وأشعلوا فيها النيران.. أخذوا الناس واحدا واحدا: يخيرونهم بين الرجوع عن الإيمان، و كلما جاءوا بواحد منهم يرمونه في النار إلا وهو يقول: لا اله إلا الله رب الغلام، لا إله إلا الله رب الغلام، آمنت بالله رب الغلام، حتى جاءوا بامرأة تحمل رضيعا صغيرا، قالوا لها: ترتدين عن دينك وإلا رميناك في النار؟ قالت: ارموني في النار ولكن اتركوا الغلام يعيش، قالوا: بل نرميه معك، ترددت المرأة لكن الله تعالى انطق الغلام في المهد فقال: يا أماه اثبتي فإنك على الحق، فرمت بنفسها ورضيعها في النار، فقال الناس جميعا : أمنا برب الغلام صارت محرقة في ” شعب” كامل .
سجلت قصة أصحاب الأخذوذ، عبر التاريخ عبرة لانتصار العقيدة على الألم وكما يقول سيد قطب رحمه الله : ” إن الناس جميعا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعا لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، مشاركة في الموت وانفراد بالمجد، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده “. ويضيف سيد قطب، و”تنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس أيضا، إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال! لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير؟، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟ إنه معنى كريم جدا، ومعنى كبير جدا، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار، فتحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار! “