ذكرى المولد النبوي.. رؤية مقاصدية
يعتبر الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم المحطات السنوية التي تمثل دلالات قوية، كما يضفي على الإسلام كدين ارتباطا بهذا النبي العظيم طابع الخصوصية دون غيره من الديانات، ولن أختزل حديثي عن هذه الذكرى العظيمة، بتحديد حكمها، فذلك كلام خاض فيه الأولون بين من يعتبرها بدعة ومن يجيزها، والحقيقة أن الخلاف غير وارد من الطرفين، فالمجيزون لا ينطلقون من كونها عيدا، كما لا تخصص بنوع من التعبد الصرف، فلا تندرج إذن ضمن خانة البدع، بل ضمن ما يسمى بالمصلحة المرسلة المحققة للمنفعة، وهي دليل من الأدلة الشرعية المعتمدة في إثبات الأحكام الشرعية كما هو معلوم في كتب أصول الفقه لا يسع المجال للتفصيل في ذلك، بل وتعتبر من الأدلة المسعفة في استنباط الأحكام لدى عدد كبير من الأئمة على رأسهم الإمام مالك رحمه الله .
فالبدعة كما هو معلوم لها ارتباط مباشر بالتعبد – على الراجح عند العديد – يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : ” فالبدعة عبارة عن : طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف، فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط، شائبة البدعة . وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد، فقد خرج عن هذه التسمية ” (الاعتصام للشاطبي الجزء الأول ، ص 48 – 56).
ارتباطا بالموضوع فإن ذكرى المولد النبوي تنحصر في ما يعظم حدث ولادة الرسول صلى الله عليه، بوسائل توعوية من قبيل المحاضرات والندوات، التي تبرز مكانة الرسول صلى عليه وسلم في هذا الكون، والعوائد النفعية على البشرية بمجيئه، بقدر ما تساهم في تصحيح معالم الفكر الإسلامي المنحرف من قبل بعض التوجهات المنحرفة، من خلال شخصيته التي برزت تعطي النموذج المثال في قضايا التدبير للشؤون المرتبطة بجميع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.
ومن المقاصد أن جعلت هذه المناسبة الذكرى مناسبة لمزيد من التعبير عن حبنا لنبينا الكريم، من خلال إبراز محاسنه صلى الله عليه وسلم بإلقاء بعض القصائد في مدحه عليه الصلاة والسلام، وهو نوع من أنواع التعبير عن شكر نعم الله تعالى، حيث مجيئه كان بشارة خير على البشرية جمعاء، قال تعالى : “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ” سورة يونس الآية 58.
فما محبته عليه السلام إلا إحدى مقتضيات الإيمان به سبحانه وتعالى، وركن من أركان الاعتقاد السليم، قال تعالى : ” قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ .” سورة التوبة الآية 24.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا أن من مقتضى الإيمان حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين”. [البخاري ، الحديث رقم 24]
ومن مظاهر محبته عليه الصلاة والسلام، اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه، قال تعالى ” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “- سورة آل عمران الآية 31.
والاقتداء به صلى الله عليه وسلم من أكبر العلامات على حبه، قال تعالى” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)” سورة الممتحنة الآية 6.
إن من خلال هذه الذكرى، يتم التذكير بهديه صلى الله عليه، والسير على منهجه صلى الله عليه وسلم، وما أحوجنا في هذا الظرف من الزمن إلى التذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بسنته، وما ضياع الأمة الإسلامية إلا بسبب تفريطها في اتباع سنته علية الصلاة والسلام، حيث المنكر أصبح معروفا، والمعروف أصبح منكرا، أما الاستثناء فلا يوضع موضع القاعدة.
وإذا كان القرآن قد أثنى عليه بما هو أهل له عليه السلام، وما شهد عليه الصحابة من أخلاق جليلة، فإن من غير المسلمين من قدموا شهادات، تجعلنا نحن معشر المسلمين، ننظر إلى أنفسنا نظرة تقصير في حق نبينا العظيم معرفيا، محبة، وتفعيلا لسنته صلى الله عليه وسلم.
فهذا “سنرستن الآسوجي ” أستاذ اللغات السامية، في كتابه “تاريخ حياة محمد يقول”:إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.”
ويقول الانجليزي ( برناردشو ) في كتابه “محمد”، والذي أحرقته السلطة البريطانية:” إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).”
ويقول المستشرق الأمريكي ( سنكس ) في كتابه “ديانة العرب” : ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.”
ومن الشهادات أختم بقول (مايكل هارت) في كتابه “مائة رجل في التاريخ”: “إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.”
لعل من خلال الشهادات السالفة الذكر، ما يدعونا إلى التساؤل عن سر تلكم الكلمات الواردة على ألسنة غير المسلمين في حق رسول الرحمة والهداية، وهو تساؤل مشروع يدفعنا إلى مزيد من الاهتمام والارتباط بسيد البشرية، وما ذكرى المولد النبوي إلا فرصة لاستيعاب دروس السيرة النبوية، ليس فقط على مستوى جرد أحداث سيرته، وإنما في استخلاص العبر من حياته عليه الصلاة والسلام إنسانا ورسولا، حتى نحيى حياة المسلم الذي يستثمر دنياه لآخرته اقتداء به عليه الصلاة والسلام، حيث الاعتدال والتوسط شعاره في تفعيل الغاية التي من أجلها خلقت البشرية .
د. عثمان كضوار