د فاطمة الزهراء هيرات تكتب: قرار المحكمة الجنائية الدولية بين تثبيت الاختصاص واختبار مصداقية العدالة الدولية

أصدرت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 15 دجنبر 2025، قرارا مهما يتعلق بالتحقيق الجاري في الوضع في فلسطين.
القرار الذي تم بأغلبية أصوات قضاة الاستئناف، يرتكز أساسا على رفض طلب وقف التحقيق الجاري للمحكمة في حرب غزة الذي قدمه الكيان الإسرائيلي، ومذكرات الاعتقال ذات الصلة، وهي أوامر الاعتقال الصادرة بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، التي صدرت عن الدائرة التمهيدية الأولى في نونبر 2024، وكذا طريقة إدارة الكيان للحرب، حيث بموجب القرار، تظل مذكرات الاعتقال هذه قائمة وسارية المفعول، كما تم التأكيد على اختصاص المحكمة على الأراضي الفلسطينية، واستمرارية التحقيق.
كما أيدت دائرة الاستئناف -من خلال قرارها- قرارا سابقا للدائرة التمهيدية، الذي خلص إلى أن أحداث 7 أكتوبر 2023 لا تشكل “وضعا جديدا” يستوجب على الادعاء العام إعادة إطلاق الإجراءات أو توجيه إخطار جديد لإسرائيل.
بشكل عام، يؤكد هذا القرار استمرار الإجراءات القضائية المتعلقة بالجرائم المزعومة المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك التحقيقات ومذكرات التوقيف الصادرة.
لكن يبقى السؤال مطروحا بشدة حول آثار هذه الاستمرارية، في ظل عدالة دولية تحت المجهر ومنظومة تخضع لازدواجية المعايير، وهي جدلية المصداقية القانونية للعدالة الدولية، التي تعتمد على نظام روما الأساسي كنظام ومرجعية قانونية، الأصل فيها أنها مكتملة ومستقلة، تحدد الجرائم وإجراءات التقاضي بشكل دقيق، كما تعمل المحكمة بآليات تعزز مصداقيتها على المستوى الإنساني من خلال العمل على إشراك الضحايا في الإجراءات وتوفير التعويضات (صندوق الضحايا).
فالكل يعلم أن العدالة الدولية تهدف أساسا إلى تحقيق المساءلة الجنائية لمرتكبي الجرائم الدولية (ومنها جرائم الحرب والعدوان والإبادة الجماعية)، وردع الجناة المحتملين مستقبلا، وكذا تحقيق العدالة للضحايا والمساهمة في المصالحة وإقرار السلام.
غير أنها تواجه عقبات معقدة، مسيسة أكثر منها واقعية، من أهمها البطء الشديد، حيث أن بطء الإجراءات وطول أمدها، بالإضافة إلى طابعها المعقد يؤدي إلى تأخير العدالة، مما يؤدي إلى إحباط الضحايا ويضعف من قوة الردع المباشرة للمحكمة. كما يمكن أن نسمي هذا البطء تماطلا مبنيا على الانتقائية السياسية، سواء في الإحالة أو التحقيق، وأيضا اتخاذ القرار. وهو ما يؤثر على شرعية العدالة الدولية بصفة عامة، التي لا تراعي سوى توازنات القوى العالمية.
فعلى سبيل المثال نجد أن معظم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية تركز على الدول الإفريقية، منها تلك القضايا المحالة من دول أطراف أو تلك المحالة من طرف مجلس الأمن الدولي، أغلبها صدرت فيها أحكام إدانة نهائية لا يتسع المجال للتطرق لها بالتفصيل، وهو سؤال يطرح حول جغرافية العدالة. بالإضافة إلى حصانة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، إلخ)، صاحبة حق الفيتو، والتي لها القدرة على إحالة القضايا (المادة 13/ب) أو تجميدها (المادة 16)، ويعد التعبير الأوضح عن ازدواجية المعايير.
ولا بد أن نذكر هنا بالمسار التاريخي الطويل والمعقد لدور المحكمة الجنائية الدولية في القضية الفلسطينية، تداخل فيها القانون الدولي مع التحديات السياسية والجغرافية. والذي يمكن تقسيمه لعدة مراحل، بدأت سنة 2009، بعد أن قدمت السلطة الفلسطينية أول إعلان للمحكمة بقبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الأراضي الفلسطينية.
إلا أن المدعي العام آنذاك، لويس مورينو أوكامبو، لم يفتح تحقيقا كاملا، معتبرا أن وضع فلسطين القانوني كدولة طرف لم يكن محسوما بعد. تلتها اللحظة التي اعترفت فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولة فلسطين كـ “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة، سنة 2012، مما منحها الأساس القانوني اللازم للمصادقة على المعاهدات الدولية مثل نظام روما الأساسي.
وفي سنة 2015، انضمت دولة فلسطين رسمياً إلى نظام روما الأساسي، لتصبح بذلك الدولة رقم 123 التي تصادق على النظام، وتتيح للمحكمة ممارسة ولايتها القضائية على أراضيها بأثر رجعي يعود إلى 13 يونيو 2014. وقد شكل هذا الانضمام نقلة نوعية في تاريخ القضية، حيث أعلنت المدعية العامة فاتو بنسودة فتح تدقيق أولي في “الوضع في فلسطين”، بهدف تحديد ما إذا كانت هناك أسس منطقية لفتح تحقيق رسمي في الجرائم المزعومة التي ارتكبت من قبل جميع الأطراف.
وهي النية التي تم تأكيدها بعد خمس سنوات من التدقيق، وبالضبط في دجنبر 2019، أعلنت بنسودة أن مكتبها وجد أساساً منطقياً للاعتقاد بأن “جرائم حرب قد ارتكبت”، وطالبت المحكمة بقرار حول الولاية القضائية الإقليمية للمحكمة، هذه الأخيرة، الولابة تم تأكيدها من خلال فتح تحقيق رسمي سنة 2021، صاحبه قرار حاسم بشأن الاختصاص، أصدرته الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية في فبراير 2021، أكدت من خلاله الولاية القضائية الإقليمية على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وهي: الضفة الغربية، قطاع غزة، والقدس الشرقية.
وبناء على هذا القرار، أعلنت المدعية العامة بنسودة في مارس 2021، فتح تحقيق كامل ورسمي في “الوضع في فلسطين”، ليشمل جميع الجرائم المزعومة ضمن النطاق الزمني والإقليمي المحدد (منذ 13 يونيو 2014)، ومنها حرب غزة 2024، وسياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية، وأحداث “مسيرات العودة” 2018-2019، بالإضافة إلى الأحداث اللاحقة.
ويمكن اعتبار المرحلة التي نعيشها بعد طوفان الأقصى، وبالضبط سنتي 2024-2025، هي مرحلة تصاعد الإجراءات القانونية، التي شهدت تصعيدا غير مسبوق في المسار القضائي الدولي، لاسيما بعد إصدار مذكرات الاعتقال الواردة أعلاه، التي تشمل القيادات العليا في الكيان الصهيوني، كما تشمل كذلك بعض القيادات من حركة المقاومة حماس.
وهي مرحلة امتحان وتمحيص حقيقي، للمزيد من إضفاء الشرعية والمصداقية للمحكمة الجنائية الدولية، من خلال الحفاظ على إنجازاتها القانونية في هذا الصدد واستكمالها حتى تحقيق العدالة، في مقابل التحدي السياسي.
إن مصداقية المحكمة الجنائية الدولية ليست خاصية ثابتة، بل هي نتيجة تفاعل ديناميكي بين التزامها القانوني بتحقيق العدالة وبين التحديات السياسية العالمية. ولكي تحافظ المحكمة على شرعيتها، يجب عليها أن تستمر في إثبات استقلاليتها، وتوسيع نطاق تطبيقها، وتضييق الفجوة بين مبادئها العالمية والواقع الانتقائي للسياسة الدولية من خلال العمل على الموازنة بين المتابعة الجادة لاسيما في القضية الفلسطينية، أكثر قضية إنسانية وعدالة في العالم، وتعزيز استقلالية وحرية، وتقوية ضمانات عمل مكتب المدعي العام، وإكسابه مناعة وحصانة ضد الضغوط والمساومات السياسية المباشرة وغير المباشرة، وأخيرا تعاون الدول الأطراف قصد دعم عمل المحكمة لتجنب تحول قراراتها إلى أحكام رمزية.




